الدرس 1225 _كتاب الصوم 25
ولكنَّ مقتضى الجمع العُرفيّ بين هذه الموثَّقة وبين الرِّوايات الثَّلاث هو حمل موثَّقة عمَّار على إرادة الكمال من الصَّوم إذا نوى قبل الزَّوال، وعدم الأجر الكامل فيما لو نوى بعد الزَّوال، فيُحمل قوله في موثَّقة عمَّار: «فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصَّوم بعدما زالتِ الشَّمس؟ قال (عليه السلام): لا»، على الكراهة بالنِّسبة إلى ما بعد الزَّوال، والمراد بالكراهة أقليّة الثواب.
ومن هنا قال صاحب الجواهر (رحمه الله): «وهو لولا نُدرته لكان في غاية القُوَّة؛ لعدم المُعارض، إلاَّ موثَّق عمَّار المنفيّ فيه الاستقامة الذي يمكن إرادة الكمال منه، كما أومأ إليه صحيح هشام، بل هو كالصَّريح في إرادة نحو ذلك...»[1].
وأمَّا القول: بأنَّ المشهور أعرض عن تلك الرِّوايات المُستدلّ بها لقول ابن الجُنيد (رحمه الله)، فقد عرفت في أكثر من مناسبة أنَّ إعراض المشهور لا يُوجب الوهن.
وأمَّا قول المُحقِّق الهمدانيّ (رحمه الله): إنَّه «لو لم نقل: بأنَّ إعراض الأصحاب عن خبر يُسقطه عن الحُجيّة، فلا أقلّ من أنَّه يورث وسوسةً في النَّفس تمنعها عن تحكيمه على سائر الأدلَّة المُعتبرة المنافية له»[2]، فليس تامّاً، كما هو واضح.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبعد عنَّا وعن جميع المؤمنين الوسوسة في كلّ شيءٍ، إنَّه سميع مجيب.
والخلاصة: أنَّ ما ذهب إليه ابن الجنيد (رحمه الله) في هذا المقام هو الأقوى، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر الثَّاني: ذهب كثير من الأعلام إلى أنَّه يمتدّ وقت نيَّة الصَّوم المندوب إلى أن يبقى من الغُروب زمان يمكن تجديد النِّيّة فيه، منهم السّيِّد المرتضى والشَّيخ وابن إدريس والفاضل والمصنِّف هنا، والشَّهيد الثَّاني في المسالك والرَّوضة(قدَّس الله أسرارهم جميعًا)، بل عن المنتهى نسبته إلى الأكثر، بل عن الانتصار والسَّرائر الإجماع عليه، وعن الشَّيخ في المبسوط (رحمه الله): «وتحقيقها أنه يجوز تجديدها إلى أن يبقى من النهار بمقدار ما يبقى زمان بعدها يمكن أن يكون صوماً. فأمّا إذا كان انتهاء النِّيّة مع انتهاء النَّهار فلا صوم بعده على حال»[3].
وبالمقابل، حكى صاحب الحدائق (رحمه الله) عن المشهور أنَّه يمتدّ وقت النِّيّة في الصَّوم المندوب إلى الزَّوال، لا إلى الغروب.
أقول: مقتضى الإنصاف هو القول الأوَّل، أي امتداد وقت النِّيّة فيه إلى الغُروب؛ وذلك لجملة من الرِّوايات:
منها: موثَّقة أبي بصير «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصَّائمِ المُتطوِّع تعرض له الحاجة؟ قَاْل: هو بالخيار ما بينه وبين العصر، وإنْ مكث حتَّى العصر ثمَّ بدا له أن يصوم، وإن لم يكن نوى ذلك، فله أنْ يصوم ذلك اليوم إن شاء»[4].
وهي صريحة في المطلوب، كما أنَّها مشهورة، وقد رواها المحمَّدون الثَّلاثة، وقد عمل بها مشهور المُتقدِّمين، فاجتمعت عليها الشُّهرة الرِّوائيّة والشُّهرة العمليّة.
ومنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) يدخل إلى أهله، فيقول: عندكم شيءٌ، وإلاَّ صُمْتُ؟ فإنْ كان عندهم شيءٌ أتَوه به، وإلاَّ صام»[5].
والظَّاهر أنَّ مورد هذه الصَّحيحة هو الصَّوم المندوب، ولا أقلّ من أنَّه القدر المتيقَّن.
ولا يخفى أيضاً: أنَّ الإتيان إلى البيت غالباً لأجل تناول الغذاء الذي بعد الزَّوال.
وعليه، فتدلّ هذه الصَّحيحة على جواز تجديد النِّيّة بعد الزَّوال.
ومنها: إطلاق صحيحة محمَّد بن قيس المُتقدِّمة[6].
وأمَّا مَنْ ذهب إلى أنَّه يمتدُّ إلى الزَّوال فقط، فقد يُستدلُّ لهم بروايتَيْن:
الأُولى: موثَّقة ابن بكير «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عَنِ الرَّجل يُجنبُ، ثمَّ ينامُ حتَّى يُصْبح، أيصومُ ذلك اليوم تطوُّعاً؟ فقال: أليس هو بالخيار ما بينه وبين نصف النَّهار...»[7].
الثَّانية: روايته الأُخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: سُئِل عن رجلٍ طلعتْ عليه الشَّمسُ وهو جُنُب، ثمَّ أراد الصِّيام بعدما اغتسل ومضى ما مضى من النَّهار؟ قَاْل: يصوم إنْ شاء، وهو بالخِيار إلى نصف النَّهار»[8].
ودلالتها واضحة، إلاَّ أنَّها ضعيفة بأبي عبد الله الرَّازيّ الجامورانيّ، واسمه محمَّد بن أحمد الجامورانيّ، قال ابن الغضائريّ: «محمَّد بن أحمد الجامورانيّ: أبو عبد الله الرَّازي، ضعفَّه القُـمّـيُّون، واستثنوا من كتاب نوادر الحِكمة ما رواه، وفي مذهبه ارتفاع...»[9].
وبالجملة، فإنْ لم يثبت ضعفه فلا أقلّ من أنَّه غير موثَّقٍ.
والجواب: عن هاتَيْن الرِّوايتَيْن: هو الحَمْل على أنَّه إذا نوى الصوم بعد الزَّوال يكون أقلّ ثواباً، وإذا نواه قبله يكون أكمل ثواباً؛ وذلك للجمع العُرفيّ بينهما وبين الرِّوايات المُتقدِّمة لاسيَّما موثَّقة أبي بصير، فإنَّها صريحة في امتداد النيَّة إلى الغُروب، والله العالم.
* * *
[1] الجواهر: ج16، ص195.
[2] مصباح الفقيه: ج14، ص318.
[3] المبسوط: ج1، ص278.
[4] الوسائل باب3 من أبواب وجوب الصَّوم ونيته ح1.
[5] الوسائل باب 2 من أبواب وجوب الصَّوم ونيته ح7.
[6] الوسائل باب 2 من أبواب وجوب الصَّوم ونيته ح5.
[7] الوسائل باب 20 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح2.
[8] الوسائل باب 20 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح3.
[9] معجم رجال الحديث: ج16، ص55.