الدرس 71 _ المقصد الأول في الاوامر 3
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيد قوله تعالى : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾([1])، وقوله (صلى الله عليه وآله): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»([2])، وقوله (صلى الله عليه وآله) لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ : «لا، بل إنما أنا شافع»([3]) إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى : « مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾»([4]).
الكلام في هذه الجهة راجع إلى أنَّ الأمر هل هو موضوع حقيقة للوجوب، أم موضوع لمعنى شامل للوجوب والاستحباب؟
ادلة القائلين بأنَّه موضوع حقيقة في الوجوب
ذهب صاحب الكفاية وجماعة إلى أنَّه موضوع حقيقة في الوجوب، وقد استدلّ على ذلك بدليل وأربعة مؤيدات.
أمّا الدليل، فهو تبادر الوجوب بمجرّد سماع الأمر من العالي، والتبادر أمارة على الحقيقة.
وأمّا المؤيدات التي ذكرها، فهي:
المؤيّد الأوّل: قوله تعالى : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»، فإنَّ الحذر لا يكون إلا في الواجب، وإلا كان لغواً. وبذلك جعل بعض الأعلام الآية الشريفة دليلاً للقول بالوجوب. وفيه: أوّلاً: الحذر قد يكون في الواجب وفي المستحب، نعم هو في الواجب أشدّ؛ لأنَّ في تركه تفويت مصلحة ملزمة. وثانياً: لو سلّمنا بأنّ الحذر لا يكون إلا في الواجب، إلا أنَّ استعمال الأمر هنا في الواجب لا يدلّ على كون الأمر حقيقة في الوجوب؛ لأنَّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
المؤيّد الثاني: قوله (صلى الله عليه وآله): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»، فإنّها دالة على كون الأمر حقيقة في الوجوب؛ إذ الروايات تواترت في استحباب السواك، فلو كان الأمر في هذا الحديث غير دالّ على الوجوب، للزم اللغو. وفيه: أوّلاً: أنَّ هذا الحديث ضعيف بالإرسال. وثانياً: ومن جهة أخرى إنَّ استفادة الوجوب جاء عن طريق قرينة، وهي سبق أمر النبي بالسواك على نحو الاستحباب، والكلام في استفادة الوجوب من الأمر بقطع النظر عن أيّة قرينة. وثالثاً: لو سلّمنا بأنّ استعمال الأمر هنا دالّ على الوجوب بلا حاجة إلى القرينة المذكورة، إلا أنَّه يبقى استعمالاً، وهو أعم من الحقيقة والمجاز.
المؤيّد الثالث: قول بريرة للنبي (صلى الله عليه وآله): «أتأمرني؟»، فهو دال على الوجوب بقرينة قوله (صلى الله عليه وآله): «إنما أنا شافع». وفيه: أوّلاً: أنَّ هذا الحديث ضعيف. وثانياً: أنَّ استفادة الوجوب جاءت عن طريق القرينة. وثالثاً: مع التسليم بأنَّ استعمال الأمر في هذا الحديث دالّ على الوجوب، إلا أنَّه يبقى استعمالاً أعم من الحقيقة والمجاز.
المؤيّد الرابع: قوله تعالى : «مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»؛ فإنَّ توبيخ العبد على مخالفة الأمر دالّ على أنَّ الأمر حقيقة في الوجوب؛ لأنَّ التوبيخ إنَّما يكون على ترك الواجب. وفيه: لو سلّمنا بأنَّ استعمال الأمر في هذه الآية المباركة دالّ على الوجوب، إلا أنَّه لا يخرج عن كونه استعمالاً، وهو أعم من الحقيقة والمجاز.
فالخلاصة إلى حدّ الآن: إنَّ ما ذكره صاحب الكفاية من مؤيّدات، لا يصلح دليلاً على كون الأمر حقيقة في الوجوب، ومن هنا عبّر عنها بالمؤيّدات.
([1]) سورة النور، الآية: 63.
([2]) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الطهارة، ج2، ص17، ح4.
([3]) عن ابن عباس: «إن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي C للعباس: يا عباس، ألا تعجب من شدة حب مغيث بريرة ومن شدة بغض بريرة مغيثاً؟! فقال لها النب لو راجعتيه، فإنه أبو ولدك! قالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، قالت: فلا حاجة لي فيه». المعجم الكبير ج11 ، ص273.
([4]) سورة الأعراف، الآية: 12.