الدرس327 _الاذان والاقامة 29
هذا، وقد جمع بعض الأعلام بين هاتين الرِّوايتين وبين الأخبار المتقدِّمة بحمل هاتين الرِّوايتين على صورة التفرُّق.
وفيه: ما لا يخفى، فإنَّه كيف يمكن حمل الموثَّقة على ذلك مع أنَّه أدركه حين سلَّم؟ وتفرق النَّاس حين التسليم خلاف المعروف المعهود بين الناس، والموظَّف شرعاً من الجلوس للتعقيب ولو قليلاً، وكذا يُقال في رواية معاوية.
والإنصاف: هو حمل الأخبار المتقدِّمة على الكراهة التي لا تنافي الاستحباب والعبادة، أي بمعنى أقليّة الثواب لا الكراهة بالمعنى المصطلح، إذ لا تجتمع مع العبادة المحبوبة.
ثمَّ إنَّ الظَّاهر من الأخبار المتقدِّمة عدم اختصاص الحكم بالجماعة، بل عمومها للمنفرد أيضاً، فيسقط عنه الأذان والإقامة لصلاته أيضاً، وفاقاً لجماعة كثيرة من الأعلام، فإنَّ أغلب الأخبار المتقدِّمة، إن لم تكن صريحة في المنفرد، فهي تشمله قطعاً.
نعم موثَّقة زيد لا دلالة فيها على نفي الحكم عن المنفرد كي تكون معارضة لأغلب الرِّوايات.
وعليه، فدعوى الشُّهرة والمعظم على اختصاص السُّقوط بالجماعة عهدتها على مدَّعيها، بل ليس فيما ذكرناه من الرِّوايات المتقدِّمة تعرُّض لاعتبار الجماعة أصلاً، سوى موثقة زيد، وظهورها ولو بالمفهوم في اشتراط السقوط بالجماعة، على وجهٍ تُعارِض ظاهر باقي الرِّوايات، محلُّ منع.
بل يمكن دعوى كون المراد أنَّ لكما الخيار في صلاة الجماعة، أي إنَّكما إنْ شئتما أن يؤمَّ أحدكما صاحبه ولا يؤذن ولا يقيم فافعلا، فإنَّ ذلك لكما في هذا الحال، وإن لم يؤمَّ أحدكما صاحبه، فلا بأس حينئذٍ.
بقي عندنا أمران:
الأول: في معنى تفرّق الصفّ أو الصُّفوف.
الثاني: هل يكون الحكم هنا مقصوراً على المسجد، أو عام له ولغيره.
أمَّا الأمر الأوَّل: فهل أنَّ المدار على تفرُّق الجميع بحيث يبقى السُّقوط مع بقاء الواحد، أو على بقاء الجميع بحيث إذا مضى واحد يسقط السُّقوط، أو على الأكثر تفرّقاً وبقاءً بمعنى تحقُّق السُّقوط مع بقائهم، وعدمه مع تفرقهم، أو على العرف في صِدق التفرُّق وعدمه، من غير ملاحظة شيء من ذلك؟
ذهب جماعة من الأعلام إلى الأوَّل، وجماعة أخرى إلى الثالث، وجماعة ثالثة إلى الأخير.
ولكي يتضح لا بدَّ من الرُّجوع إلى الرِّوايات المتقدِّمة، فنقول: أمَّا موثَّقة زيد بن علي فهي مطلقة، أي مفادها عدم الفرق في السُّقوط بين تفرّق الصُّفوف وعدمه.
وأمَّا رواية أبي عليّ فهي دالَّة على القول الأوَّل، أي إنَّه مع انصراف بعضهم وبقاء بعض آخر يسقط الأذان والإقامة، ولكنَّها ضعيفة السَّند كما عرفت.
وأمَّا روايتا أبي بصير فهما دالَّتان على القول الثاني، حيث علّق الأَذان فيهما على تفرّق الصفّ «وإن كان تفرّق الصفّ أذَّن أقام».
والتفرُّق يصدق بذهاب بعضهم وبقاء بعض، وحينئذٍ فيؤذِّن ويقيم في هذه الصُّورة، ولا يترك الأذان والإقامة إلاَّ مع بقائهم جميعاً الذي هو مصداق عدم التفرّق، وبما أنَّ إحدى الرِّوايتين موثَّقة كما عرفت فيتعيَّن الأخذ بها، وبذلك يكون إطلاق موثَّقة زيد بن علي مقيَّداً بموثَّقة أبي بصير.
وممَّا يؤيِّد: موثَّقة أبي بصير رواية زيد النرسي المتقدِّمة، فإنَّ ظاهرها هو أنَّك إذا أدركت الجماعة، وقد انصرف القوم، أي فرغوا من الصَّلاة، ووجدت الإمام مكانه، وأهل المسجد لم يتفرَّقوا يعني: لم يخرجوا من المسجد بل بقوا مشتغلين بالتعقيب والذِّكر، فإنَّه يجزئك أذانهم وإقامتهم، وإذا وافيتهم وقد فرغوا من صلاتهم وهم جلوس لغير التعقيب، بل لأمور أُخَر فأقِم بغير أذان.
وإن وجدتهم قد تفرَّقوا، وخرج بعضهم من المسجد، فأذِن وأقِم.
ولكن الذي يرد على هذه الرِّواية أمران:
الأوَّل: أنَّها ضعيفة كما عرفت لِعدم وثاقة زيد النرسي.
وثانياً: أنَّها فصَّلت بين صورتين في الحكم مع اتّحادهما موضوعاً، بعدم خروجهم من المسجد، حيث يسقط الأذان والإقامة إذا بقوا مشتغلين بالتعقيب والذكر، وإذا جلسوا ولم ينشغلوا بالتعقيب فيسقط الأذان فقط، وهذا التفصيل غريب لم يلتزم به أحد من الفقهاء، والله العالم.
وأمَّا الأمر الثاني: وهو كون الحكم مقصوراً على المسجد، أو كونه عامّاً له ولغيره؟
ذهب جماعة من الأعلام إلى الأوَّل، منهم المحقِّق في المعتبر والنافع، والشَّهيد الثاني، واختاره صاحب المدارك.
وذهب بعض الأعلام إلى الثاني، منهم المصنِّف R في الذكرى، حيث قال: «فرع: الأقرب أنَّه لا فرق بين المسجد وغيره، وذكره في الرِّواية بناءً على الأغلب».
أقول مقتضى الإنصاف: هو الاختصاص بالمسجد.
والسرُّ فيه: أنَّ الرِّوايات الواردة في المقام أي: من حيث السُّقوط وعدمه كلُّها موردها المسجد إلاَّ رواية أبي بصير الضعيفة فإنَّها مطلقة، وبما أنَّه لا يصحّ العمل بها لِضعفها فيتعيَّن الأخذ بالباقي.
والقول بأنَّ ذِكْر المسجد في الرِّوايات من باب الأغلب يحتاج إلى قرينة، ولا سيَّما أنَّ المسألة على خِلاف الأصل، إذ الأصل عدم السُّقوط عن الجماعة الثانية إذا لم تتفرَّق الأُولى، والله العالم.