الدرس291 _القِبلة 19
ومنها: رواية محمَّد بن الحُصَيْن «قال: كتبتُ إلى عبد صالحٍ: الرَّجل يصلِّي في يومِ غيمٍ في فلاةٍ من الأرض، ولا يعرف القِبلة، فيصلِّي حتَّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشَّمس، فإذا هو قد صلَّى لغير القبلة، أيعتدّ بصلاته، أم يعيدها؟ فكتب: يعيدها، ما لم يفته الوقت، أو لم يعلم أنَّ الله يقول وقوله الحقّ : « فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ ]البقرة: 115[»[i]f162، وهي ضعيفة أيضاً بجهالة محمد بن الحُصَين.
ثمَّ إنَّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار، والأخبار المتقدِّمة الدَّالة على الصحَّة إذا صلَّى إلى غير القبلة: هو حَمْل هذه الأخبار على ما إذا كان الانحراف كثيراً، واصلاً إلى حدِّ المشرق والمغرب، أو إلى الاستدبار، كما أنَّ مقتضى إطلاقها عدم القضاء خارج الوقت حتَّى في حال الاستدبار.
والحاصل من مجموع الأخبار: أنَّه إذا كان الانحراف فيما بين المشرق والمغرب فقد صحت صلاته، وإلاَّ أعادها في الوقت لا في خارجه، من غير فرق بين الاستدبار أو التشريق أو التغريب.
وأمَّا القول الآخر أي: الإعادة في خارج الوقت أيضاً في صورة الاستدبار فقد يستدلّ له بثلاثة أدلَّة:
الأوَّل: رواية معمّر (عمرو) بن يحيى المتقدِّمة «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن رجلٍ صلَّى على غير القبلة، ثمَّ تبيَّنتِ القبلة، وقد دخل وقت صلاة أُخرى، قال: يعيدها قبل أن يصلِّي هذه التي قد دخل وقتها...»[ii]f163.
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة كما تقدَّم بأحمد بن عَمْرِو بن كيسبة، فإنَّه مهمل.
وثانياً: أنَّه يُحتمل إرادة وقت الفضيلة من وقت الأخرى، كما يشير عدم تصريح السَّائل بخروج وقت الأُولى.
وثالثاً: لا توجد قرينة على إرادة خصوص الاستدبار من قوله: «غير القِبلة».
وعليه، فلا يلتفت إلى هذه الرِّواية، خصوصاً بالنسبة إلى ما بين المشرق والمغرب، فإنَّه لم يذهب أحد ممَّا يعتدّ به إلى القضاء خارج الوقت فيما لو كان منحرفاً ما بين المشرق والمغرب.
بل وكذا لو كان منحرفاً إلى نفس المشرق والمغرب، فإنَّ مَنْ ذهب إلى القضاء فإنَّما ذهب إليه فيما لو كان مستدبراً.
ورابعاً مع غضّ النظر عن كلِّ ذلك : فإنَّه يمكن حَمْلها على الاستحباب.
الثاني: موثَّقة عمَّار المتقدِّمة عن أبي عبد الله N «قال في رجلٍ صلَّى على غير القِبلة، فيعلم وهو في الصَّلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجِّهاً فيما بين المشرق والمغرب، فَلْيحوِّل وجهه إلى القِبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجِّهاً إلى دبر القِبلة فَلْيقطع الصَّلاة، ثمَّ يحوَّل وجهه إلى القِبلة، ثمَّ يفتتح الصَّلاة»[iii]f164.
وفيه أوَّلاً: أنَّها ظاهرة في الوقت لا خارجه حتَّى تكون داخلة في محلّ الكلام.
وحَمْلها على ما إذا كانت صلاته في آخر الوقت بحيث علم بذلك بعد إدراك ركعة منها مثلاً، وخروج الوقت فبعيد جدّاً في هذه الموثَّقة.
مع أنَّ الظَّاهر من الاستدبار فيها بقرينة المقابلة ما يعمّ اليمين واليسار وقضاء الصَّلاة معهما مخالف للتسالم.
الثالث: مرسلة الشَّيخ R في النهاية «قال: رُويت رواية أنَّه إذا كان صلَّى إلى استدبار القبلة، ثمَّ علم بعد خروج الوقت، وجب عليه إعادة الصَّلاة»[iv]f165.
وفيها أوَّلاً: أنَّها من أضعف أنحاء الإرسال، لكونها نقلاً لمضمون رواية مجهولة العين، فيحتمل قويّاً كونها نقل مضمون موثَّقة عمَّار بحسب ما أدى إليه نظر الناقل.
وثانياً: أنَّ الشَّيخ R الناقل لها لم يعمل بها في باقي كتبه.
وأمَّا في النهاية فقال: «هذا هو الأحوط، وعليه العمل»، وهو غير ظاهر في الاعتماد إلاَّ من جهة الاحتياط.
والخلاصة: أنَّ ما ذهب إليه الأعلام من عدم القضاء خارج الوقت هو الصحيح، والله العالم.
ثمَّ إنَّه بناءً على ما ذكرناه لا نحتاج إلى تحقيق المراد من الاستدبار، ضرورة مساواته حينئذٍ في الحكم للمشرق والمغرب.
مع أنَّ الإنصاف فيه: أنَّ الاستدبار يتحقّق بمجاوزة المشرق والمغرب، وإن لم يبلغ مقابل القِبلة، لصدق الخروج عن القبلة والاستدبار لغةً وعرفاً.
وتؤكّده: موثَّقة عمَّار المتقدِّمة، خلافاً للشَّهيد الثاني R في المسالك، حيث قال: «المراد بالاستدبار ما قابل جهة القِبلة، بمعنى أنَّ كل خطٍّ يمكن فرض أحد طرفيه جهة لها فالطرف الآخر استدبار...».
ومهما يكن، فالأمر سهل بعد ما عرفت.
وممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ المراد بالمغرب والمشرق الكناية عن اليمين واليسار، وخصَّا بالتعبير في الرِّواية لأجل قِبلة الرَّاوي والمروي عنه، وللغلبة.
وذكر بعض الأعلام أنه ما بين المشرق والمغرب بالنسبة إلى أهل العراق واليمن، وأنّه ما بين الشِّمال والجنوب فهو بالنسبة إلى أهل المشرق وأهل المغرب، وأنّه ما بين القوس الجنوبي فهو بالنسبة إلى أهل الشَّام، وقس على هذا.
وممَّا يؤكِّد ما ذكرنا تعبير أكثر القدماء باليمين واليسار، ونصّ بعضهم على أنَّه أشمل من التعبير بالمشرق والمغرب، بل قيل: لم يُعبِّر أحد قبل الفاضلين بالمشرق والمغرب، بل عن المصنِّف R في الذكرى: «وظاهر كلام الأصحاب أنَّ (الانحراف) الكثير ما كان إلى سَمْت اليمين واليسار، أو الاستدبار، لرواية عمَّار...».
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه لا فرق بين ما لو ظنّ بالقبلة، أو غفل عن مراعاتها، أو اعتقد اعتقاداً جزميّاً، بأنَّ الجِهة التي يصلِّي إليها قِبلة على نحو الجهل المركب، أو على نحو النسيان، والاشتباه، ففي جميع هذه الصور لو تبيَّن خطأه بعد الفراغ من الصَّلاة، وكان الانحراف يسيراً أي: فيما بين المشرق والمغرب لم يُعِد الصَّلاة؛ ولو كان كثيراً أعادها في الوقت، لا في خارجه.
ولو تبيَّن في الأثناء استقام، ومضى في صلاته، إذا كان منحرفاً فيما بين المشرق والمغرب، وإن كان الانحراف كثيراً استأنف.
ووجه الصّحَّة فيما لو كان فيما بين المشرق والمغرب في جميع الصُّوَر: هو إطلاق صحيحة معاوية بن عمَّار المتقدِّمة، وكذا غيرها ممَّا تقدَّم، فإنَّ مقتضى إطلاق الأخبار المتقدِّمة الدَّالة على صحَّة الصَّلاة الواقعة فيما بين المشرق والمغرب، خصوصاً الصحيحتين صحيحة معاوية وصحيحة زرارة المتقدّمتَيْن الدَّالتَيْن على أنَّ ما بين المشرق والمغرب قِبلة، عدم الفرق بين ما لو صلَّى غفلةً أو خطأً، لزعم كون ما يصلِّي إليه قبلةً جازماً بذلك أو ظانّاً أو ناسياً أو غافلاً.
وأمَّا دليل شمول صورة الانحراف الكثير التي يعيد في حالها في الوقت، لا خارجه، للظانّ، والجازم خطأ، والناسي، والغافل، هو إطلاق صحيح عبد الرّحمان المتقدِّم.
وأمَّا تخصيص الظان بالقبلة بالاجتهاد دون غيره من بقية الصّور، كما في صحيحة سُليمان بن خالد «قال: قلتُ لأبي عبد الله N: الرَّجل يكون في قفر من الأرض، في يوم غيم، فيصلِّي لغير القِبلة، ثمَّ تصحى فيعلم أنَّه صلَّى لغير القبلة، كيف يصنع؟ قال: إن كان في وقتٍ فَلْيُعد صلاته، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده»[v]f166، فلا يصلح لتقييد صحيحة عبد الرَّحمان المتقدِّمة.
ولا لتقييد صحيحة زرارة عن أبي جعفر N «قال: إذا صلَّيت على غير القِبلة، فاستبان لك قبل أن تُصْبح أنَّك صلَّيت على غير القِبلة، فأعدْ صلاتَك»[vi]f167.
والسِّرُ في عدم صلاحيّته للتقييد: هو أنَّ تخصيص الاجتهاد بالذِّكر لكونه جارياً مجرى الغالب، فلا خصوصيَّة له، إذ الغالب عندما يكون الإنسان في قفر من الأرض، واليوم غيم، أن يجتهد في أمر القِبلة حتَّى يصلِّي.
وعليه، فلا يدلّ على المفهوم حتَّى يتقيّد به الإطلاق.