الدرس 139_التكسّب الحرام وأقسامه (134). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 139 / الاثنين: 08-شباط-2021
الأمر الثَّاني: المعروف بين الأعلام جواز الارتزاق من بيت المال، وهو ما أُعِدَّ لمصالح المسلمين المجتمع من الزَّكاة والصَّدقات والنُّذورات المطلقة، ومال الخراج والمقاسمة، ومن جملة مصالح المسلمين القضاء الذي فيه قيام نظام النَّوع.
قال الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب: «إذا قام المكلَّف بما يجب عليه كفايةً أو عيناً، ممَّا يرجع إلى مصالح المؤمنين وحقوقهم كالقضاء والإفتاء والأذان والإقامة ونحوها، ورأى وليُّ المسلمين المصلحة في تعيين شيءٍ من بيت المال له في اليوم أو الشَّهر أو السَّنة من جهة قيامه بذلك الأمر؛ لكونه فقيراً يمنعه القيام بالواجب المذكور عن تحصيل ضروريَّاته، فيعين له ما يرفع حاجته، وإن كان أزيد من أُجْرة المثل أو أقلَّ منها، ولا فرق بين أن يكون تعيين الرِّزق له بعد القيام أو قبله، حتَّى أنَّه لو قيل له: اِقضِ في البلد وأنا أكفيك مؤونتك من بيت المال، جاز، ولم يكن جعالة، وكيف كان فمقتضى القاعدة عدم جواز الارتزاق، إلاَّ مع الحاجة، على وجهٍ يمنعه القيام بتلك المصلحة عنِ اكتساب المؤونة، فالارتزاق مَعَ الاستغناء، ولو بكسبٍ لا يمنعه القيام بتلك المصلحة غير جائز. ويظهر من إطلاق جماعة في باب القضاء خلاف ذلك، بل صرَّح غير واحد بالجواز مع وجدان الكفاية».
أقول: يظهر مِنَ الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك أنَّ القاضي إذا تعيَّن عليه القضاء، وكان غير محتاج، فالأشهر أنَّه لا يجوز له أَخْذ الرزق؛ لأنَّه يؤدِّى فرضاً، فلا يجوز له أَخْذ العِوَض عنه، كغيره من الواجبات.
وفي الجواهر: «وإنَّما المسلَّم الارتزاق مَعَ الحاجة إليه ولو بسبب القيام بالمصلحة المانع له مِنَ التَّكسُّب، سواء تعيَّن عليه ذلك أو لا، وليس هو في الحقيقة عِوَض معاملي، بل لأنَّ بيت المال معدٌّ للمحاويج، سيَّما القائمين بمصالح المسلمين الذين يمنعهم القيام بذلك عَنِ التَّكسُّب للمعاش».
والإنصاف: أنَّه يجوز الارتزاق مطلقاً، أي سواء أكان القائم بمصلحة المسلمين محتاجاً أم لا، وسواء أكانت المصلحة القائم بها واجبة أم لا؛ لأنَّ بيت المال معدٌّ للقائمين بمصالح المسلمين وللمحاويج مِنَ المسلمين، ولا دليل على اختصاصه بالمحاويج مِنَ المسلمين.
وعليه، فيجوز للحاكم الشَّرعي أن يعطي من بيت المال من يقوم بمصالح المسلمين، وإن لم يكن محتاجاً.
وقد يستدلُّ لجواز الارتزاق مطلقاً، وإن لم يكن محتاجاً: برواية دعائم الإسلام عن عليٍّ (عليه السلام)، حيث ورد في ذيلها: «ولا بدَّ من قاضٍ ورِزْق للقاضي، وكَرِه أنْ يكون رِزْق القاضي على النَّاس الذين يقضى لهم، ولكن من بيت المال»[1]f72، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال، مع قطع النَّظر عن وثاقة صاحب الكتاب.
وقد يستدلُّ أيضاً لجواز الارتزاق مطلقاً بمرسلة حمَّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عَنِ العبد الصَّالح (عليه السلام) في حديث طويل في الخمس، والأنفال والغنائم «قال: والأرضون التي أُخذت عنوةً، (بخيل أو ركاب)، فهي موقوفة متروكة في يد من يعمِّرها ويحييها ثمَّ ذكر الزَّكاة، وحصَّة العُمَّال، إلى أن قال: ويأخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإِسلام، وتقوية الدِّين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممَّا فيه مصلحة العامَّة»[2]f73، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ثمّ أنّه قد يستدلُّ لحرمة ارتزاق القاضي من بيت المال بحسنة عبد الله بن سنان المتقدِّمة «قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَاضٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقَضَاءِ الرِّزْقَ؟ فَقَالَ: ذلِكَ السُّحْتُ»[3]f74، وهي حسنة بطريق الكُلَيْني، وصحيحة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله).
وقد ذكرناها سابقا، وقلنا: إنها محمولة على كون الرزق أجرة على القضاء، وقد بينّا أنّه يحرم أخذ الأجرة على القضاء. والفرق بين الأجرة والارتزاق على ما ذكره جماعة من الأعلام منهم الشهيد الثاني (رحمه الله) في المسالك أن الأجرة تفتقر إلى تقدير العمل والعوض، وضبط المدة، والصيغة الخاصة. وأما الارتزاق فمنوط بنظر الحاكم، فلا يتقدر بقدر.
والخلاصة: أنه يجوز الارتزاق من بيت المال.
الأمر الثَّالث: في موضوع الرِّشوة، وقد ذهب جماعة مِنَ الفقهاء واللُّغويين إلى أنَّ الرَّشوة لا تختصُّ بالأحكام، وإلا لما صحَّ إطلاقها على غيرها.
وعن جماعة أخرى مِنَ الفقهاء اختصاصها بالأحكام، ولكنِ اختلفوا، هل هي بَذْل المال من أحد المتحاكمين، أو كليهما على مطلق الحكم، أو على الحكم بالباطل.
ومن جملة الرِّشوة في الحكم المعاملة المحاباتيَّة مَعَ القاضي، فإذا باع مِنَ القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، كان النَّاقص مِنَ الثَّمن مِنَ الرِّشا المحرَّم.
نعم، لو كان غرضه تعظيم القاضي أو التودُّد إليه أو التقرُّب إلى الله تعالى فلا يكون ذلك رشوةً، وفي حكم بَذْل العين له بَذْل المنافع، كسكنى الدَّار، فإنَّ ذلك أيضاً رشوة إذا قصد بذلك الحكم له.
ثمَّ إليك بعض الأقوال في تعريف الرشوة، ففي مختصر النهاية أنَّها: «الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة... فالرَّاشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرَّائش هو الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا»، وفي مجمع البحرين: «والرِّشوة بالكسر : ما يعطيه الشخصُ الحاكمَ وغيره؛ ليحكم له، أو يحمله على ما يريد... والرشوة قلَّما تستعمل إلاَّ فيما يتوصَّل به إلى إبطال حقِّ أو تمشية باطل»، وفي القاموس: «الرّشوة مثلثة : الجُعْل، الجمع رشى بالفتح، ورشى بالكسر»، وفي المنجد: «الرّشوة مثلثة : ما يعطى لإبطال حقٍّ، أو إحقاق باطل»، وعن حاشية الإرشاد: «الرِّشوة: ما يبذله المتحاكمان من المال للحاكم، سواء كان للقضاء وتصدّي فصل الخصومة، أم كان للحكم بالواقع أو لنفسه»، وفي مفتاح الكرامة: «إنَّها أي الرِّشوة عند الأصحاب: ما يعطى للحكم حقّاً وباطلاً».