الدرس 121 _اصناف المستحقين للزكاة 22
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويجوز مقاصة المستحقّ حيّاً وميّتاً إذا لم يترك ما يصرف في دينه. وقيل: وإن ترك، مع تلف المال(1)
(1) يقع الكلام في أمرَيْن:
الأوَّل: في مقاصة المستحقّ حيّاً.
الثَّاني: في مقاصّته ميتاً.
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام أنَّه لو كان للمالك دَيْن على فقير جاز أن يقاصّه به من الزَّكاة.
وفي المدارك: «هذا الحكم أعني جواز مقاصَّة المديون بما عليه من الزكاة مقطوعٌ به في كلام الأصحاب، بل ظاهر المصنِّف في المعتبر والعلاَّمة في التَّذكرة والمنتهى أنَّه موضع وفاق بين العلماء...».
ثمَّ إنَّه قبل الاستدلال لهذه المسألة، نقول: إنَّ المراد من المقاصَّة هنا القصد إلى إسقاط ما في ذمَّة الفقير للمزكّي من الدَّيْن على وجه الزَّكاة، أي الَّذي له في ذمَّة المديون من الدَّين بدلاً عمَّا عليه من الزَّكاة، فيحتسب أحدهما مكان الآخر.
ونُسِب إلى الشَّهيدَيْن تفسير المقاصّة باحتسابها على الفقير، أي عدّها ملكه، بمعنى أن يفرز ويعزل ما عنده من الزَّكاة ويجعله للمديون، ثمَّ يأخذه منه تقاصّاً ووفاءً عمَّا عليه من الدَّيْن، وإن لم يقبضها المديون ولم يوكل في قبضها.
وقدِ استشكل بعض الأعلام في هذه المقاصّة المنسوبة إلى الشَّهيدَيْن بعدم قبول المديون، وعدم قبضه وعدم ولاية الدَّائن عليه.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا بأس بهذه المقاصّة لدلالة النَّصّ عليها، وهي موثَّقة سماعة الآتية الدَّالّة على ذلك، بل قال صاحب الجواهر بعد ذكره للموثَّقة : «بل منه يعلم أنَّ المقاصّة غير الاحتساب، فالأَولى تفسيرها في المتن ونحوه بما سمعته من الشَّهيدَيْن وإن استبعده بعضهم، بل الظَّاهر أنَّها حقيقة في ذلك مجاز في الاحتساب، والأمر سهل بعد جواز الأمرَيْن معاً...»، وهو الصَّحيح؛ إذ لا إشكال في الأمرَيْن معاً.
إذا عرفت ذلك ، فيدل على جواز المقاصة مضافاً إلى التّسالم بينهم جملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة عبد الرَّحمان بن الحجّاج «قَاْل: سألتُ أبا الحسن الأوَّل (عليه السلام) عن دَينٍ لي على قوم قد طال حَبْسُه عندهم لا يقدرون على قضائِه وهم مستوجبون للزَّكاة، هل لي أن أدعه فأحتسب به عليهم مِنَ الزَّكاة؟ قَاْل: نعم»([1]).
ومنها: رواية عقبة بن خالد «قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَالْمُعَلَّى وَعُثْمَانُ بْنُ عِمْرَانَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَلَمَّا رَآنَا قَالَ: مَرْحَباً مَرْحَباً بِكُمْ، وُجُوهٌ تُحِبُّنَا وَنُحِبُّهَا، جَعَلَكُمُ الله مَعَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): نَعَمْ، مَهْ([2])؟ قَالَ: إِنِّي رَجُلٌ مُوسِرٌ، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ الله لَكَ فِي يَسَارِكَ، قَالَ: وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي الشَّيْءَ، وَلَيْسَ هُوَ إِبَّانُ زَكَاتِي، فَقَالَ لَهُ: أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): الْقَرْضُ عِنْدَنَا بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَمَاذَا عَلَيْكَ إِذَا كُنْتَ كَمَا تَقُولُ مُوسِراً أَعْطَيْتَهُ، فَإِذَا كَانَ إِبَّانُ زَكَاتِكَ احْتَسَبْتَ بِهَا مِنَ الزَّكَاةِ يَا عُثْمَانُ! لَا تَرُدَّهُ، فَإِنَّ رَدَّهُ عِنْدَ الله عَظِيمٌ يَا عُثْمَانُ! إِنَّكَ لَوْ عَلِمْتَ مَا مَنْزِلَةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَبِّهِ مَا تَوَانَيْتَ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً، فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى رَسُولِ الله (ص)، وَقَضَاءُ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ يَدْفَعُ الْجُنُونَ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ»([3])، ولكنَّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبعدم وثاقة عقبة بن خالد.
ومنها: موثَّقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: سألتُه عَنِ الرَّجل يكون له الدَّيْن على رجل فقير يريد أن يعطيه مِنَ الزَّكاة، فَقَاْل: إن كان الفقير عنده وفاء بما كان عليه من دَيْن من عرض من دار، أو متاع من متاع البيت، أو يعالج عملاً يتقلّب فيها بوجهه، فهو يرجو أن يأخذ منه ماله عنده من دَيْنه، فلا بأس أن يقاصَّه بما أراد أن يعطيه من الزَّكاة، أو يحتسب بها، فإنْ لم يكن عند الفقير وفاء، ولا يرجو أن يأخذ منه شيئاً، فيعطيه من زكاته، ولا يقاصّه بشيءٍ من الزَّكاة»([4]).
ويظهر من هذه الموثَّقة أنَّ المقاصّة غير الاحتساب، وهي تناسب ما ذهب إليه الشهيدان من تفسير المقاصّة.
وذكر كثير من الأعلام أنَّ هذا التَّفصيل في الموثَّقة، كالأمر بالإعطاء من الزَّكاة لخصوص هذا الشَّخص الذي بلغ فقره حدّ اليأس من قدرته على الأداء محمول على الاستحباب.
وذكر صاحب الحدائق (رحمه الله) وجهاً لطيفاً لا بأس بذِكْره، وهو «أنَّه لما كان الفقير هو الغير المالك لمؤنة سنة فعلاً أو قوَّة، فقد يملك أشياء، وإن كانت لا تفي بمؤنة السَّنة، وإن وفت بدينه وزيادة وقد لا يملك شيئاً بالكُلِّيّة، فأمره (عليه السلام) بالاحتساب في الحالة الأُولى من حيث الفقر، وإن أمكنه أداء الدَّين، ومنعه من الاحتساب في الحالة الثَّانية؛ وذلك لأنَّه مُعسِر فيجب إنظاره، كما دلَّت عليه الآية، والاحتساب استيفاء وقبض للدَّين، وهو غير جائز شرعاً بالنِّسبة إلى المعسر لوجوب إنظاره إلى ميسرة، فلذا منعه من الاحتساب عليه، وأمره بإعطائه من الزَّكاة»، ومهما يكن فإنَّ هذا لا يضرّ بالاستدلال بها، والله العالم.
الأمر الثَّاني: المعروف بين الأعلام أنَّه لا إشكال في مقاصة الميّت المديون، وفي المدارك: «اِتّفق علماؤنا وأكثر العامَّة على أنَّه يجوز للمزكِّي قضاء الدَّيْن عن الغارم من الزَّكاة بأن يدفعه إلى مستحقّه ومقاصّته بما عليه من الزَّكاة»، وفي الواقع هو كالحيّ بالنِّسبة إلى ذلك، فتجوز مقاصّته على الوجهَيْن السَّابقَيْن فيها.
ويدل على جواز المقاصّة مضافاً إلى التَّسالم بينهم رواية يونس بن عمَّار «قَاْل: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قَرْضُ المؤمنِ غَنِيمةٌ، وتعجيلُ أجرٍ، إنْ أيسر قضاك، وإنْ مات قبل ذلك أحتسبت به مِنَ الزَّكاة»([5])، ولكنَّها ضعيفة بعدم وثاقة إبراهيم بن السّنديّ.
وقدِ استدلّ لذلك أيضاً: بحسنة زرارة المتقدِّمة «قَاْل: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): رجلٌ حلَّتِ عليه الزَّكاة وماتَ أبُوه وعَلْيه دَينٌ، أَيُؤدِّي زكاته في دينِ أبيه، وللإِبنِ مالٌ كثيرٌ؟ فَقَاْل: إنْ كان أبُوه أَوْرَثه مالاً، ثمَّ ظهر عليه دَينٌ لم يعلم به يومئذٍ فَيَقْضِيه عَنْه، قَضَاه مِنْ جميعِ المِيرَاثِ، وَلَمْ يَقْضِه مِنْ زكاتِه، وإِنْ لم يَكُنْ أَوْرَثه مالاً لم يكن أحدٌ أحقُّ بزكاتِه مِنْ دَينِ أبيه، فإذا أدَّاها في دَينِ أبيهِ على هَذِه الحال أجزأتْ عنه»([6]).
وقدِ استدلّ الأعلام بهذه الحسنة على جواز قضاء الدين عن الميّت، وعلى الاحتساب من الزَّكاة.
قال صاحب الجواهر (رحمه الله): «وهما (أي رواية يونس بن عمَّار وحسنة زرارة) معاً شاهدان على اعتبار قصور التَّركة عن الوفاء في الاحتساب من الزَّكاة، كما عن المبسوط والوسيلة والتَّذكرة والتَّحرير والدُّروس والبيان التَّصريح به، واختاره في المدارك».
وذكر المصنِّف (رحمه الله) في البيان أنَّه لو أتلف الوارث المال، وتعذّر الاقتضاء لم يبعد جواز الاحتساب والقضاء.
([1]) الوسائل باب 46 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
([2]) أي: ما مطلبك، والهاء للسَّكت، أصله «فما»، أي ما تريد.
([3]) الكافي: المجلد الرابع باب القرض: ص34، ح4.
([4]) الوسائل باب 46 من أبواب المستحقين للزكاة ح3.
([5]) الوسائل باب 49 من أبواب المستحقّين للزّكاة ح1.
([6]) الوسائل باب 18 من أبواب المستحقّين للزّكاة ح1.