الدرس 87 _زكاة الغلات الأربعة 25
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وحكم ما تستحبُّ فيه الزَّكاة من الغلاَّت حكم الواجب(1)
(1) قال في المدارك: «هذه الأحكام متفق عليها بين الأصحاب، بل قال في المنتهى: إنه لا خلاف بين أهل العلم».
أقول: يدلُّ عليه مضافاً إلى التَّسالم بينهم جملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة محمَّد بن إسماعيل «قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): إنَّ لنا رطبةً وأرزاً، فما الذي علينا فيهما؟ فقال (عليه السلام): أمَّا الرُّطبة فليس عليك فيها شيء، وأمَّا الأرز فما سقت السَّماء العُشْر، وما سقي بالدَّلو فنصف العُشْر من كلِّ ما كِلتَ بالصاَّع، أو قال: وكيل بالمكيال»([1])، وفي مجمع البحرين: «الرُّطبة: القصب خاصَّة ما دام رطباً».
ومنها: حسنة زرارة «قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) في الذُّرة شيء؟ فقال لي: الذُّرة والعدس والسّلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشَّعير، وكلُّ ما كِيل بالصَّاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزَّكاة فعليه فيه الزَّكاة»([2])، وكذا غيرها من الرِّوايات الكثيرة.
ثمَّ إنَّ الاتِّحاد في الكيفيَّة هو المتبادر من مجموع الرِّوايات، وأنَّ الاختلاف إنَّما هو في الوجوب والنَّدب خاصَّة، كما يشير إليه اتِّحاد الكيفيَّة في الواجب والنَّدب في غير المقام من الوضوء والغسل، وغيرهما، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو باع النِّصاب كان نصيب المستحقّ مراعى بالإخراج؛ لتعلُّق الزَّكاة بالعين(1)
(1) إذا باع المالك العين التي تعلَّقت بها الزَّكاة، كما لو باع التَّمر أو الزَّبيب أو الحنطة أو الشَّعير، فإن كان المباع بعضاً منها، بحيث كان مقدار الزَّكاة، أو أكثر باقياً، فلا إشكال حينئذٍ في صحَّة البيع؛ لأنَّه بإمكانه دفع الزَّكاة من الباقي، وهذا الأمر راجع إليه؛ لأنَّه له الولاية على التصرُّف في هذا المال، بأن يجعل مقداراً منه زكاة والباقي له.
وأمَّا إذا باع جميع المال الذي تعلَّقت به الزَّكاة، ولم يستثنِ مقدار الزَّكاة، ولم يخرجه من مال آخر، ففي هذه الحالة يكون البيع بالنَّسبة إلى مقدار الزَّكاة فضوليّاً، فإن أجازه الحاكم الشَّرعيّ باعتبار أنَّه وليُّ على الفقراء فيأخذ الحاكم الثَّمن من المشتري ويرجع المشتري على البائع إذا كان قد دفع الثَّمن إليه، وإن لم يجز الحاكم الشَّرعيّ هذه المعاملة كان له أخذ مقدار الزَّكاة من المبيع أو يبيع الحاكم الزَّكاة للمشتري؛ هذا كلُّه في صورة علم المشتري بعدم أداء البائع للزَّكاة.
وأمَّا لو شكَّ المشتري بأنَّ البائع هل دفع الزَّكاة قبل البيع أم لا، فهل يبني على صحَّة المعاملة لأصالة الصِّحّة التي هي بمعنى ترتيب الأثر على العمل الصَّادر من الغير، سواء أكان ذلك من العقود أم الإيقاعات، حيث إنَّ أصالة الصِّحّة تجري في جميع أبواب العقود والإيقاعات؟
ولكن ذكرنا في محلِّه عند الكلام عن أصالة الصِّحّة في مبحث الاسصحاب أنَّ الدَّليل على أصالة الصِّحّة لُبِّيّ يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، فكلُّ موردٍ أحرزنا فيه قيام السِّيرة على العمل بأصالة الصِّحّة عند الشَّكّ في تحقُّقه فنأخذ به، وكلُّ موردٍ لم يحرز فيه قيام السِّيرة على ذلك فهو متروك، ولا يُوجد دليلٌّ لفظيٌّ على اعتبار أصالة الصِّحّة حتَّى يُؤخذ بعمومه أو إطلاقه عند الشَّكّ.
ومهما يكن، فقد ذكرنا في محلِّه أنَّ أصالة الصِّحّة تجري في خصوص الشَرائط الرَّاجعة إلى العقد، كالعربيَّة والماضويَّة بناءً على اعتبارهما والتَّنجيز والتَّرتيب بين الإيجاب والقبول ونحوها، فلو كان الشَّكّ متمحِّضاً في تأثير السَّبب، وكونه واجداً للشَّرائط المعتبرة فيه كان الأصل فيه الصِّحّة.
وأمَّا لو كان الشَّكّ في الصِّحّة والفساد مسبباً عن الشَّكّ في شرائط المتعاقدَيْن أو شرائط العوضَيْن، فلا تجري فيه أصالة الصِّحّة، إلاَّ ما استثنيناه عند الكلام عن أصالة الصِّحّة في مبحث الاستصحاب، فراجع.
ويترتَّب على ما ذكرناه: أنَّه لا بدَّ من إحراز القابليَّة وأهليَّة الفاعل، فلو شكَّ في صحَّة المعاملة من جهة الشَّكّ في القابليَّة والأهليَّة، كما لو شككنا في كونه مالكاً حين البيع أو وكيلاً فلا تجري أصالة الصِّحّة؛ لعدم ثبوت السِّيرة في مثل ذلك، وهذا هو حالنا هنا؛ لأنَّنا نشكُّ في قابليَّة البائع بالإضافة إلى مقدار الزَّكاة، فهل أدَّى الزَّكاة قبل البيع حتى يكون أهلاً لبيع هذه العين أم لا؟ ولا يمكن التمسُّك بأصالة الصِّحّة.
وعليه، فأصالة الفساد جاريةٌ بالنِّسبة إلى مقدار الزَّكاة.
اللَّهمَّ إلاَّ أن يُقال: إنَّ أهليَّة العاقد لإيجاد المعاملة مُحرَزة بقاعدة اليد، فهو في هذه الحالة أهلٌ لإجراء المعاملة؛ لأنَّ قاعدة اليد تُثبِت الملكيَّة، ولا يحتاج حينئذٍ إلى أصالة الصِّحّة.
قلتُ: نعم، إنَّ هذا الكلام صحيحٌ إذا لم تكن اليد الفعليَّة مسبوقةً بكونها يد عدوانٍ أو يد أمانةٍ، أمَّا لو كان مسبوقةً بذلك، كما لو كانت العين في يده وديعةً أو عاريةً أو إجارةً، وادَّعى الآن الملكيَّة بشراءٍ ونحوه مع اعترافه بعدم الملك سابقاً، فإنَّه لا بدَّ من إثبات الملكيَّة، وإلاَّ كان المرجع أصالة عدم النَّقل والانتقال.
وقد يُقال: إنَّ مقامنا من هذا القبيل، فإنَّ يد البائع على مقدار الزَّكاة يدُ أمانةٍ؛ لكون ذلك للفقراء فلا بدَّ من إثبات انتقال الملكيَّة إليه بدَفْع البدل وإلاَّ فلا تجري قاعدة اليد، والأصل عدم النَّقل والانتقال.
ولكن قد يُجاب عن ذلك: بأنَّ البائع، وإن كانت يده على مقدار الزَّكاة يد أمانةٍ؛ لكون هذا المال للفقراء، إلاَّ أنه قادرٌ على أنَّ ينقله إلى نفسه إمَّا بدَفْع الزَّكاة من خارج النِّصاب أو بأن يستجيز الحاكم الشَّرعيّ، ويضمن له مقدار الزَّكاة، ويملك حينئذٍ مقدار الزَّكاة الذي كان للفقراء، لاسيَّما أنَّه لا يُوجد دعوى مضادَّة في وجه البائع.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه مع الشَّكّ يمكن التمسُّك بقاعدة اليد، وإحراز أنَّ العين بتمامها هي للبائع، فيكون البيع صحيحاً.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ومن ثَمَّ لم يمنعها الدَّين(1)
(1) تقدَّم الكلام في ذلك مفصَّلاً عند قوله سابقاً: «ولا يمنع الدَّين من وجوبها...»، فراجع، فإنَّه مهمٌ.
وقع الفراغ منه صبيحة يوم الخميس في السَّادس من ذي القعدة سنة 1442 للهجرة، الموافق لــــ 17 حزيران سنة 2021 للميلاد، وذلك في الضَّاحية الجنوبيَّة لبيروت.
([1]) الوسائل باب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح2.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح10.