الدرس 64 _زكاة الغلات الأربعة 2
أقول: أمَّا مَنْ ذهب إلى أنَّه يعتبر تسميته تمراً وزبيباً وحنطةً وشعيراً، وهو مذهب المحِّقق (رحمه الله) ومَنْ وافقه، فقد يستدلُّ لهم بأنَّ الأحكام الشرعيَّة تدور مدار عناوين موضوعاتها، والوارد في الرِّوايات هو تعليق الزكاة على نفس العناوين أي عنوان التَّمر والزَّبيب والحنطة والشَّعير.
أُنظر إلى صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: ما أنبتتِ الأرضُ من الحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب ما بلغ خمسة أوساق، والوسق ستُّون صاعاً، فذلك ثلاثمائة صاع، ففيه العشر...»([1])، ومعتبرة محمَّد بن الطيَّار المتقدِّمة «قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمّا تجب فيه الزكاة، فقال: في تسعة أشياء: الذَّهب والفضَّة، والحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب، والإِبل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (ص) عمَّا سوى ذلك...»([2])، وكذا غيرها من الرِّوايات.
وظاهر انحصار الزَّكاة فيما أنبتته الأرض في الغلاَّت الأربع هو وجوب إلحاق البُسر والحصرم وشبههما من ثمر النَّخل والكرم ممَّا هو خارج عن مسمِّيات هذه الأسامي بما عداها من الثَّمار الَّذي لا زكاة فيه، وإلاَّ لم يكن معنى للحصر بالأربع، ولم يرد في الرِّوايات تعليق الوجوب على بدوِّ الصلاح ونحوه ممَّا هو خارج عن عنوان التَّمر والزَّبيب والعنب والحنطة والشَّعير.
وأمَّا القول الآخر وهو قول المشهور : فقد يستدلّ له بعدَّة أدلة:
منها: الإجماع المنقول عن المنتهى، حيث قال: «لا تجب الزَّكاة في الغلاَّت إلاَّ إذا نمت في مُلْكه، فلوِ ابتاع أو استوهب أو ورث بعد بدوِّ الصَّلاح لم تجب الزَّكاة بإجماع العلماء...».
وفيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس حجَّة؛ لعدم كونه مشمولاً لأدلَّة حُجيَّة خبر الواحد.
ومنها: صِدْق الحنطة والشَّعير عند اشتداد الحبّ وصِدْق التَّمر عند الاحمرار أو الاصفرار.
وعليه، فيثبت فيما قبل الاحمرار أو الاصفرار، وفي الحصرم، بالإجماع المركَّب.
مضافاً لِمَا عن بعض أهل اللُّغة من أنَّ البُسر نوع من التَّمر، وكذا الرُّطب.
وفيه أوَّلاً: أنَّ ما ورد عن بعض أهل اللُّغة معارض لجماعة أخرى من أهل اللُّغة بعدم كونهما تمراً، ففي الصّحاح في ثمر النَّخل: «أوَّله طلع ثمَّ خلال ثمَّ بُسر ثمَّ رطب ثمَّ تمر»، وعن مجمع البحرَيْن: «قد تكرَّر في الحديث ذِكْر التَّمر، وهو بالفتح والسُّكون اليابس من ثمر النَّخل»، وعن المصباح المنير: «التَّمر ثمر النَّخل كالزَّبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللُّغات، لأنَّه يترك على النَّخل بعد إرطابه حتى يجفّ أو يقارب، ثمَّ يقطع ويترك في الشَّمس حتى ييبس، قال أبو حاتم: ربَّما جذت النَّخلة وهي باسرة بعد ما أخلت لتخفيف عنها أو خوف السَّرقة حتى يكون تمراً».
وثانياً: لو سلَّمنا بصدق اسم الحنطة والشَّعير على الحبّ بمجرّد اشتداده، وكذا اسم التَّمر على البُسر والرُّطب، إلاَّ أنَّه لا إشكال في انصراف إطلاقات أساميها في المحاورات العرفيَّة وفي الرِّوايات إلى اليابس منها، فلا يتبادر عرفاً من الأمر بالتصدُّق بشيء من هذه الأجناس إلاَّ إرادة اليابس منها.
ومن المعلوم أنَّ العرف مقدَّم على اللُّغة في الأحكام الشرعيَّة.
ومنها: صحيحة سُليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: ليس في النَّخل صدقةٌ حتَّى يبلغ خمسة أَوْسَاقٍ، والعِنَب مثل ذلك حتَّى يكون خمسة أوْسَاقٍ زبيباً»([3]).
وجه الاستدلال بهذه الصَّحيحة: أنَّها دلَّت على ثبوت الزَّكاة في العنب إذا بلغ خمسة أوْسَاقٍ زبيباً، ويتمُّ الاستدلال في غير العنب كالحصرم مثلاً بعدم القول بالفصل.
والإنصاف: أنَّه يحتمل في الصَّحيحة معنيان:
الأوَّل: أن يكون المراد بكونه «خمسة أَوْسَاقٍ زبيباً»، كونه كذلك بالفعل، أي أنَّ الوجوب متعلِّق بالزَّكاة إذا كان زبيباً بالفعل، وقبل هذه الحالة لا يكون الوجوب متعلِّقاً به.
وبناءً على هذا الاحتمال تكون الصَّحيحة شاهداً لقول المحقِّق (رحمه الله) ومَنْ تبعه من الأعلام، وليست شاهداً لقول المشهور.
وبالجملة، فتكون دالَّةً على عكس مرادهم.
الثَّاني: أن يكون المراد بكونه «خمسة أَوْسَاقٍ زبيباً»، كونه كذلك بالقوَّة، أي تجب الزكاة في العنب بمقدار ما لو جفَّ لكان خمسة أَوْسَاقٍ.
وعلى هذا الاحتمال يتمُّ الاستدلال للمشهور؛ لأنَّ الموضوع هو العنب، كما أنَّ الموضوع في صدر الرِّواية هو النَّخل، أي مطلق ثمر النَّخل، فيشمل البُسر والرّطب ولا يختصُّ بالتَّمر.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ الاحتمال الأوَّل أقوى؛ لأنَّ التَّقدير خلاف الظَّاهر، أي تقدير الوجوب في العنب بمقدار لو جفَّ لكان خمسة أَوْسَاقٍ، هو خلاف الظَّاهر؛ لأنَّ ظاهرها تعلُّق الوجوب به حال كونه زبيباً.
كما أنَّ الإطلاق في الصَّدر: «أي مطلق ثمر النَّخل»، في غير محلِّه؛ لأنَّ قوله: «حتَّى يبلغ خمسة أَوْسَاقٍ»، يجعله كالنَّصِّ في إرادة خصوص التَّمر الذي هو معظم الثَّمر.
والخلاصة: أنَّ الاحتمال الأوَّل إن لم يكن أقوى من الثَّاني فلا أقل من أنَّه مساوٍ له، فتصبح الرِّواية مجملةً.
ثمَّ إننا لو سلَّمنا بدلالة هذه الصَّحيحة على ثبوت الزَّكاة في العنب قبل جفافه، فتماميَّة الاستدلال بها لمذهب المشهور يتوقَّف على القول: بعدم القول بالفصل بينه وبين غيره من ثمر النَّخل والكرم، ولم يثبت ذلك، بل نُسِب القول بالتَّفصيل إلى ابن الجنيد (رحمه الله)، واختاره في المدارك (رحمه الله)، وكذلك جماعة من الأعلام، ولازمه قصر الحكم على خصوص العنب.
ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «لا يكون في الحبِّ، ولا في النَّخل، ولا في العنب، زكاةٌ حتَّى تبلغ وسقَيْن، والوَسْق ستُّون صاعاً»([4]).
وفيه أوَّلا: أنَّها ضعيفة بعدم وثاقة القاسم بن محمَّد الجوهري، وجهالة محمَّد بن عليٍّ.
وثانياً: أنَّه لا إطلاق في الحبِّ والنَّخل؛ لأنَّ الرِّواية ناظرةٌ لحيثيَّة بلوغِ النِّصاب لا غير.
نعم، هي ظاهرة في ثبوت الوجوب للعنب.
وثالثاً: أنَّ هذه الرِّواية مشتملة على ما لا يمكن القول به، وهو كون الوسقَيْن نصاباً، مع أنَّه لا بدَّ أن يكون خمسة أوساقٍ بالاتِّفاق.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح5.
([2]) الوسائل باب 8 من أبواب ما تجب فيه الزَّكاة وما تستحب فيه ح12.
([3]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح7.
([4]) الوسائل باب 3 من أبواب زكاة الغلاَّت ح3.