الدرس 62 _زكاة النقدين 8
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: فإن شكَّ فيه فلا شيء(1)
(1) بعد البناء على وجوب الزَّكاة في الخالص من الدَّنانير والدَّراهم المغشوشة، فإذا شككنا في بلوغ الخالص حدَّ النصاب، فالمعروف بين الأعلام عدم وجوب الزَّكاة؛ وذلك للأصل، أي أصل البراءة، كما أنَّه لا يجب الفحص، لاتِّفاق الأصوليين والإخباريين على عدم وجوب الفحص في الشُّبهات الموضوعيَّة.
ومن هنا قال في المسالك: «لا قائل بوجوب التَّصفية مع الشَّكّ في النِّصاب».
ولكن في الجواهر قوَّى وجوب الفحص إن لم يكن إجماعٌ على خلافه، وذكر أنَّه مال إليه بعض المحقِّقين.
أقول: قد يستدلُّ لوجوب الفحص بأمرَيْن:
الأوَّل: أنَّه يلزم من الرُّجوع إلى الأصول النَّافية للتَّكليف مع عدم الفحص الوقوع في مخالفة التَّكليف كثيراً.
ونظيره ما لو تركنا الفحص عند الشَّكّ في بلوغ المال حدّ الاستطاعة، فإنَّه يلزم حينئذٍ الوقوع في مخالفة الواقع كتأخير الحجِّ عن أوَّل عام للاستطاعة، وهكذا في غيرها، فيلزم من ترك الفحص كثرة الوقوع في مخالفة الواقع.
ويرد عليه: أنَّ هذا الشَّخص الشَّاكّ في بلوغ الخالص حدّ النّصاب لا يعلم بتنجُّز التَّكليف عليه في خصوص المورد الَّذي هو محلُّ ابتلائه.
نعم، يعلم إجمالاً بحصول المخالفة للتَّكليف إذا أجرى كلُّ المكلَّفين الأصل النَّافي.
ولكنَّ هذا العلم الإجمالي المتعلِّق به وبغيره من المكلَّفين لا يوجب التَّنجيز، كما ذكرنا مفصَّلاً في مباحث العلم الإجماليّ.
أضف إلى ذلك: أنَّه لا يلزم من المخالفة هنا أكثر ممَّا يلزم من المخالفة في جريان أصل الطَّهارة، ونحوه من الأصول الموضوعيَّة، ومع ذلك، فلا يجب الفحص فيها بالاتِّفاق.
الأمر الثَّاني الَّذي يستدلُّ به لوجوب الفحص: رواية زيد الصَّائغ المتقدِّمة، حيث قال (عليه السلام): «فاسبكها حتَّى تخلص الفضَّة ويحترق الخبيث...».
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة، كما عرفت.
وثانياً مع قطع النَّظر عن ضعف السَّند : أنَّها على خلاف القاعدة، فيقتصر على موردها، وهو صورة العلم بوجوب النِّصاب مع الشَّكّ في مقداره، ولا يتعدَّى إلى الشَّكّ في أصل النِّصاب، كما هو محلُّ الكلام.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا يجب الفحص، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وإن علم وشكّ في قدر الغشّ صفِّي إن ماكس، ثمَّ يخرج عن المغشوشة منها أو صافيه بحسابها(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه إذا كان معه دراهم مغشوشة، وقد بلغ خالصها النِّصاب، فإن عرف قدر الفضَّة أخرج الزَّكاة منها فضَّة خالصة إن شاء، وإن أراد أخرج عن الجملة منها مراعياً للنِّسبة، فلو كان معه ثلاثمائة درهم مغشوش ثلثها في كلِّ درهم تخيَّر بين إخراج خمسة دراهم خالصة وإخراج سبعة ونصف عن الجملة.
وأمَّا إن جهل قدر ما فيه من نصاب الفضَّة، مع علمه إجمالاً بأصل النِّصاب، فإن كانت الدَّراهم جميعها متساويةً في مقدار الغشّ، وإن لم يعلمه بالتفصيل، جاز له الاجتزاء بإخراج ربع العُشْر من الجميع.
وإن لم تكن جميعها على نسق واحد، بل كانت مختلفةً، فإن تطوَّع المالك وأخرج عن جملتها من الجياد أو ممَّا كان منها أقلّ غشّاً ممَّا عداه جاز أيضاً، بل هذا هو الأَولى؛ لِما فيه من الاستظهار في براءة الذّمَّة، وكذا لو أخرج من الخالصة أو المغشوشة ما يحصل معه اليقين بالبراءة.
وأمَّا ما لو ماكس وامتنع إلاَّ عن إخراج مقدار الواجب، فهل يلزم تصفيتها لنعرف مقدار الواجب الَّذي يحصل بإخراجه القطع بفراغ الذّمَّة عن الواجب الَّذي علمه بالإجمال، أم لا يجب؟
ذهب المصنِّف (رحمه الله) والمحقِّق (رحمه الله) في الشَّرائع إلى وجوب التَّصفية ليعرف مقدار الواجب، بل نُسِب ذلك إلى الأكثر.
ولكن ذهب جماعة كثيرة من المتأخِّرين إلى الاكتفاء بإخراج ما تيقَّن اشتغال الذّمَّة به وطرح المشكوك فيه عملاً بأصالة البراءة.
وفي المدارك: «واستوجه المصنِّف في المعتبر، والعلاَّمة في جملة من كتبه، الاكتفاء بإخراج ما يتيقَّن اشتغال الذّمَّة به، وطرح المشكوك فيه، عملاً بأصالة البراءة، وبأنَّ الزِّيادة كالأصل، فكما تسقط الزَّكاة مع الشَّكّ في بلوغ الصَّافي النِّصاب فكذا تسقط مع الشَّكّ في بلوغ الزِّيادة نصابا آخر، وهو حَسَنٌ»، وهذا هو الصَّحيح؛ لأنَّ المورد من موارد جريان أصل البراءة.
نعم، لو تمَّت رواية زيد الصَّائغ سنداً لالتزمنا بوجوب التَّصفية تخصيصاً للقاعدة، حيث ورد فيها: «قلتُ: وإن كنتُ لا أعلم ما فيها من الفضَّة الخالصة إلاَّ أنِّي أعلم أنَّ فيها ما يجب فيه الزَّكاة؟ قال: فاسبكها حتى تخلص الفضَّة، ويحترق الخبيث، ثمَّ تزكِّي ما خلص من الفضَّة لسنة واحدة»([1])، إلاَّ أنَّك عرفت أنَّها ضعيفة بجهالة محمَّد بن عبد الله بن هلال، وزيد الصَّائغ.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا عِبْرة بالرَّغبة، والإخراج بالقسط. وفي المبسوط: يجزئ الأدون مع تساوي العيار(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه لا اعتبار باختلاف الرَّغبة مع تساوي الجوهرَيْن في الجنسيَّة، بل يضمّ بعض أفراد الجنس إلى بعض، وإن تفاوتت قيمتها كجيِّد الفضَّة ورديئها، وعالي الذَّهب ودونه، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل نسبه بعضهم إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه، ولعلَّه كذلك، مضافاً إلى إطلاق الأدلَّة...».
أقول: من جملة الأدلَّة: موثَّقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قال: في كلِّ مائتي درهم خمسة دراهم من الفضَّة، وإن نقصت فليس عليك زكاة، ومن الذَّهب من كلِّ عشرين ديناراً نصف دينار، وإن نقص فليس عليك شيء»([2])، وهذه الموثَّقة شاملة بإطلاقها لمتساوي القيمة ومختلفها، وكذا غيرها من الرِّوايات.
ثمَّ إن تطوَّع المالك بإخراج الأرغب ونحوه من الأفراد الكاملة فقد أحسن وأنفق ممَّا يحبّ، وقد زاد خيراً، وإن ماكس كان له الإخراج من كلِّ جنس بقسطه، كما عن المصنِّف (رحمه الله) والمحقِّق (رحمه الله) في الشَّرائع، وجماعة كثيرة من الأعلام؛ لأنَّه مقتضى قاعدة العدل والإنصاف، ومشاركة الفقراء مع الأغنياء في الأموال، كما لو كانت عنده عشرة دنانير جيِّدةً، والعشرة الأخرى رديئةً، فتكون الزَّكاة نصفها من الجيِّدة والنِّصف الآخر من الرَّديئة، ولا يجزئه الدَّفع من الأدنى لمنافاته لقاعدة الشَّركة.
وحُكِي عن الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط أنَّ التَّقسيط يحمل على الأفضليَّة، فلو أخرج من الأدنى جاز لحصول الامتثال، وقد وافقه جماعة من الأعلام، منهم العلاَّمة (رحمه الله) في جملة من كتبه.
ويظهر من المصنِّف (رحمه الله) في البيان والمحقِّق الثَّاني (رحمه الله) في جامع المقاصد، والشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك، أنَّ قاعدة الشَّركة تقتضي التَّقسيط أيضاً بين الجيِّد والأجود.
أقول: ما ذكره الأعلام من وجوب التَّقسيط بين الجيِّد والرَّديء وبين الجيِّد والأجود إنَّما يتمُّ على القول بتعلُّق الزَّكاة بالعين على نحو الإشاعة والشرَّكة الحقيقيَّة؛ لأنَّ كلَّ جزءٍ من النِّصاب مشتركٌ بين المالك والفقير بالنِّسبة.
وعليه، فالدَّفع من الرَّديء تفويت لحقٍّ الفقير بالإضافة إلى الجيِّد، كما أنَّ الدَّفع من الجيِّد منه تفويت لحقِّ الفقير بالإضافة إلى الأجود.
ولكنَّ المبنى في غير محلِّه، بل الزَّكاة متعلِّقة بالعين على نحو الشَّركة في الماليَّة، والمتولِّي للإخراج هو المالك، دون الفقير، فله اختيار التَّطبيق على الرديء كالجيِّد.
وأمَّا التَّقسيط فلا أثر له في الرِّوايات، بل ظاهرها خلافه؛ لأنَّها مطلقةٌ.
وعليه، فما حُكِي عن الشَّيخ (رحمه الله) من أنَّه لو أخرج من الأدنى جاز، لحصول الامتثال بإخراج ما يصدق عليه الاسم، هو الصحيح.
والخلاصة: أنَّه لا فرق عندنا، بعد الاتحاد في الجنس بين تساوي الرغبة وعدمها، وتساوي القيمة وعدمها، وتساوي العيار وعدمه.
تتمة بحث زكاة النقدين موجود (صوتيا) في الدرس 63 / الثلاثاء: 2 تشرين2 2021 (الدرس الاول من بحث زكاة الغلات الأربعة)
ثمَّ إنَّه لا إشكال بين الأعلام في جواز دفع الأدنى قيمةً عن الأعلى، كما لو دفع ديناراً تامّاً أدنى عن نصف دينار جيِّد، وكان فرضه النِّصف؛ وذلك لأنَّه دفع الفريضة وزيادة وقصد المكلَّف أنَّه قيمة عن الأعلى لا يقدح في الإجزاء.
وهل يجوز دفع الأعلى قيمةً عن الأدنى؛ مثل أن يخرج ثلث دينار جيِّد قيمةً عن نصف دينار إذا كان فرضه هو إخراج نصف دينار؟ صرح جماعة من الأعلام بعدم الجواز، بل نسبه في الحدائق إلى المشهور؛ وذلك لأنَّ الواجب هو إخراج دينار من العشرين، فلا يجزئ النَّاقص عنه.
واحتمل العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة الإجتزاء اعتبارا بالقيمة، وهو الإنصاف عندنا.
وتوضيحه: أنَّ الفقير، وإن كان شريكاً مع المالك في العين بنحو الشَّركة في الماليَّة، إلاَّ أنَّ الاختيار بيد المالك، وله ولاية التَّبديل والإخراج من غير العين من درهم أو دينار، ونحوهما من النقود، بل يجوز دفع القيمة من غير النَّقدين، كما ذكرنا سابقاً.
وعليه، فيجوز دفع الدِّرهم بدلاً عن الدِّينار أو الدِّينار بدلاً عن الدّرهم، بل يجوز دفع القيمة من غير النَّقدَيْن، كما عرفت.
وقد ورد في ذيل صحيحة البرقيّ المتقدِّمة: «أيّما تيسَّر يخرج»([1])، فيستفاد منها ومن غيرها أنَّ العبرة إنَّما هي بمراعاة القيمة، سواء أكانت من النُّقود أم من غيرها من باقي الأجناس، فإذا جاز دفع خمسة دراهم بدلاً عن نصف دينار لمساواته له في القيمة لما عرفت من أنَّ كلَّ دينارٍ من الذَّهب يساوي عشرة دراهم من الفضّة فدفع نصف دينار جيِّد بدلاً عن دينار رديء يجوز بطريق أَوْلى.
والخلاصة: أنَّ ما احتمله العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة من الإجزاء اعتباراً بالقيمة هو الأقوى، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح1.
([1]) الوسائل باب 7 من ابواب زكاة الذهب والفضة ح1.
([2]) صدر الحديث في باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح4، وذيله في باب 1، ح4.