الدرس 50 _زكاة الأنعام 22
ويرد على الأوَّل: أنَّ دعوى استفادته من النَّص بتنزيله على بيان أدنى ما يجزي، هي قابلة للمنع، وإلاَّ لكان الأعلى درجةً من أفضل مصاديق الفريضة الواجبة، فلم يكن يستحقُّ بدفعه إلى الفقير قيمة التَّفاوت الذي قدّره الشَّارع بشاتين أو عشرين درهماً.
ويرد على الثَّاني أي الأولويَّة : أنَّه إذا كانت أعلى قيمةً وأعظم نفعاً، فهي مجزية بملاحظة القيمة السوقيَّة، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً أنَّه يجوز الإخراج من غير جنس الفريضة بالقيمة السوقيَّة، كما إذا فرض كون الأدنى أيضاً كذلك، ولو باعتبار كونها سمينةً، فيلزم أيضاً كونها مجزيةً بهذه الملاحظة، وهذا خارج عن محلِّ الكلام؛ إذ الكلام في كون الأعلى سنّاً مجزية من حيث كونها كذلك تعبُّداً، وإن لم تكن أعلى قيمةً، وهذا ممَّا لم تعلم أولويَّته.
والخلاصة: أنَّه لا يجزي ما فوق الأسنان عنِ الفريضة الواجبة إلاَّ بملاحظة القيمة السوقيَّة.
نعم، يجزي دفع الأعلى بدرجة بلا جبر، في الموارد التي ثبت جوازه فيها مع الجبر، كما إذا كانت الفريضة بنت مخاض، فدفع بنت لبون من غير أن يأخذ التَّفاوت، للأولويَّة القطعيَّة، ولأنَّ أخذ التَّفاوت حقٌّ للمالك، فله إسقاطه.
وعن المصنِّف (رحمه الله) هنا أي الدروس والبيان القول: «بأنَّ فرض كل نصاب أعلى يجزئ عن الأدنى وزاد هنا، أي في الدروس وفي إجزاء البعير عن الشاة فصاعداً لا بالقيمة، وجهان».
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ الأقوى عدمه؛ لخروجه عنِ المنصوص، كما أنَّك عرفت أنَّه يجوز الاقتصار في الإجزاء بدفع الفريضة الأعلى للأدنى، لا بملاحظة القيمة على الموارد التي دلَّ الدَّليل على جوازها مع الجبر، لا مطلقاً، فلا يجزي بنت مخاض عن خمس شياه التي هي فريضة خمس وعشرين إلاَّ بالقيمة.
وأمَّا القول: بأنَّه يمكن استفادة كفاية الفريضة الأعلى عنِ الأدنى من النصِّ بالأولويَّة، وتنقيح المناط، ففي غير محلِّه، فإنَّ هذا القول لا يُسمَع في الأحكام التعبُّدية، لا سيَّما بعد الالتفات إلى ما ورد في صحيحة أبان بن تغلب منَ الرَّدع عن العمل بمثل هذه الأولويَّة التي هاهنا «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون، قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممَّنْ قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله (ص)، إنَّ المرأة تعاقل الرَّجل إلى ثلث الديَّة، فاذا بلغت الثُّلث رجعت إلى النِّصف، يا أبان، إنَّك أخذتني بالقياس، والسُّنة إذا قيست محق الدِّين»([1]).
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا في غير الإبل. بل القيمة(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ ما عدا أسنان الإبل كالبقر والغنم لا يثبت فيها الجبران، اقتصاراً على مورد النصِّ.
قال العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة: «ولا نعلم فيه خلافاً، فمن عُدِم فريضة البقر أو الغنم، ووجد الأدون أو الأعلى، أخرجها مع التَّفاوت، أو استردَّه بالتَّقويم السُّوقي»، وفي البيان: «الإجماع عليه».
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في إجزاء ذلك كلّه بملاحظة القيمة السوقيَّة، وأمَّا بدونها فلا يجزي مع الجبر أو بدونه، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتُجزِي في الجميع، والعين أفضل(1)
(1) يقع الكلام في خمسة أمور:
الأوَّل: في جواز إخراج القيمة في الزَّكاة عن الذَّهب والفضَّة والغلاَّت.
الثَّاني: في جواز إخراج القيمة في الزَّكاة عن الأنعام.
الثالث: هل يجوز الإخراج بالقيمة السوقيَّة من أيِّ جنس يكون أم يختصُّ ذلك بالدَّراهم والدَّنانير، وما في حكمهما، كالأوراق النَّقدية المتداولة في هذه الأعصار؟
الرَّابع: هل المراد بالقيمة وقت الإخراج أم وقت الوجوب؟
الخامس: هل إخراج الزَّكاة من العين أفضل أم لا؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام جواز إخراج القيمة في الزَّكاة عن الذَّهب والفضَّة والغلاَّت.
وفي المدارك: «أمَّا جواز إخراج القيمة في الزَّكاة عن الذَّهب والفضَّة والغلاَّت، فقال في المعتبر: إنَّه قول علمائنا أجمع...»، وفي الجواهر: «أنَّه لا خلاف معتدٍّ به في الاجتزاء بإخراج القيمة في غير الأنعام، بل في المعتبر والتذكرة والمفاتيح وظاهر المبسوط وإيضاح النافع والرياض على ما حُكِي عن بعضها الإجماع عليه».
أقول: هناك تسالم بين جميع الأعلام قديماً وحديثاً على ذلك، ولم ينقل الخلاف فيه إلاَّ عن الأسكافي.
وفيه أولاً: أنَّه حكي عن شرح الرَّوضة التصريح بموافقة الإسكافي أيضاً للمشهور.
وثانياً: لو سلَّمنا بثبوت مخالفته، إلاَّ أنَّ خلافه لا يضر بالتسالم.
ثمَّ إنَّه قد استدل للجواز أيضاً بجملة من الروايات:
منها: صحيحة البرقي «قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): هل يجوز أن أخرج عمّا يجب في الحرث من الحنطة والشَّعير، وما يجب على الذَّهب، دراهم قيمة ما يسوى؟ أم لا يجوز إلاّ أن يخرج من كلّ شيء ما فيه؟ فأجاب (عليه السلام): أيّما تيسّر يخرج»([2]).
ومنها: صحيحة علي بن جعفر «قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرَّجل يعطي عن زكاته عن الدَّراهم دنانير، وعن الدَّنانير دراهم بالقيمة، أيحلُّ ذلك ؟ قال: لا بأس به»([3]).
ومنها: موثَّقة يونس بن يعقوب أو صحيحته «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عيال المسلمين، أُعطيهم من الزَّكاة، فأشتري لهم منها ثياباً وطعاماً، وأرى أنّ ذلك خير لهم؟ قال: فقال: لا بأس»([4])، ومحمَّد بن الوليد المذكور في السَّند هو البجلي الثِّقة بقرينة روايته عن يونس بن يعقوب.
وأمَّا محمَّد بن الوليد الصّيرفي المجهول فهو، وإن كان في نفس الطّبقة، إلاَّ أنَّه لا يروي عن يونس بن يعقوب.
ويؤيِّد ما ذكرناه: أنَّ البجلي الثِّقة هو المشهور والمعروف بين الأعلام.
ثمَّ إنَّ الوجه في الترديد بين كون الرِّواية موثَّقة أو صحيحة هو أنَّ يونس بن يعقوب، قد قال بإمامة عبد الله الأفطح، ثمَّ رجع إلى الحقّ وكذا محمد بن الوليد.
([1]) الوسائل باب 44 من أبواب دية الأعضاء ح1.
([2]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح1.
([3]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح2.
([4]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح4.