الدرس 41 _زكاة الأنعام 13
وفي مقابل المشهور هناك قول: بتعيُّن التَّبيع، ذهب إليه ابن أبي عقيل وعليُّ بن بابويه، وولده الشَّيخ الصَّدوق والشَّيخ المفيد (رحمهم الله) في كتاب الأشراف وجماعة كثيرة من متأخِّري المتأخِّرين ومتأخِّريهم إلى يومنا هذا.
ومنه تعرف أنَّ ما ادَّعاه صاحب المدارك والعلاَّمة (رحمهما الله) في المنتهى مِنَ الإجماع على التَّخيير في غير محلِّه.
أقول: أمَّا مَنْ ذهب إلى تعيُّن التَّبِيع، فقدِ استدلَّ بحسنة الفضلاء التي هي الأصل في هذا الحكم، رواها الكليني عن عليِّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمَّاد عن حريز عن زرارة ومحمَّد بن مسلم وأبي بصير وبريد العجلي والفضيل عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) «أنَّهما قَالَا: فِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ حَوْلِيٌّ، وَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ بَقَرَةً (بَقَرَةٌ) مُسِنَّةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْءٌ حَتّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بقرة مُسِنَّةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتِ السِّتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلى السَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ السَبْعِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ إِلى الثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ إِلى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ تبايع (تَبَائِعَ) حَوْلِيَّاتٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، ثُمَّ تَرْجِعُ الْبَقَرُ عَلى أَسْنَانِهَا، وَلَيْسَ عَلَى النَّيِّفِ شَيْءٌ، وَلَا عَلَى الْكُسُورِ شَيْءٌ...»([1])، والحَوْلي: ما أكمل السَّنة، ودخل في الثَّانية.
وهذه الحسنة نقلها صاحب الحدائق (رحمه الله) أيضاً، إلا أنَّه قال: «فإذا بلغت تسعين ففيها ثلاث تبيعات حَوْليات...».
وقد يستدلُّ أيضاً برواية الأعمش المرويَّة في الخِصَال، حيث ورد فيها: «... وَتَجِبُ عَلَى الْبَقَرِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَةً حَوْلِيَّةً، فَيَكُونُ فِيهَا تَبِيعٌ حَوْلِيٌّ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً، ثُمَّ يَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ (فَفِيهَا تَبِيعَتَانِ إِلَى سَبْعِينَ، ثُمَّ فِيهَا تَبِيعَةٌ وَمُسِنَّةٌ إِلَى ثَمَانِينَ، وَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ)، ثم يكون (فَتَكُونُ) فِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ، ثُمَّ يَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ تَبَايِعَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ...»([2])، وتأنيث التَّبِيعة في قوله «ثلاثين بقرة تبيعة» إنَّما هو باعتبار لفظها، فلا يفهم من ذلك إرادة خصوص المؤنَّث.
ومن المعلوم أنَّه لا يشترط في نِصَاب البقر كونها تبيعةً حَوْليَّةً.
والَّذي يهوِّن الخطب: أنَّ الرِّواية ضعيفة بجملة من المجاهيل في السند.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى التَّخيير، فقد يستدلُّ له ببعض الأدلَّة:
منها: ما عَنِ المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر، قال: «من طرق الأصحاب ما رواه زرارة ومحمد بن مسلم وأبو بصير والفضيل وبريد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: في البقر في كلِّ ثلاثين تَبِيع أو تَبِيعة، وليس في أقلَّ من ذلك شيء، حتَّى تبلغ أربعين، ففيها مسنَّة، ثمَّ ليس فيها شيء حتَّى تبلغ ستين، ففيها تَبِيعان أو تَبِيعتان، ثمَّ في سبعين تَبِيع أو تَبِيعة ومُسنَّة، وفي ثمانين مسنَّتان، وفي تسعين ثلاث تبايع».
قال صاحب الحدائق (رحمه الله) بعد نقله لهذه الرواية عن المحقق (رحمه الله) في المعتبر : «وهذه الرِّواية أيضاً مثل الأولى التي نقلنا عنه في نِصَاب الإبل لم يتعرَّض لها أحد مِنَ المحدِّثين في كتب الأخبار، ولا الأصحاب في كتب الاستدلال، وهو عجيب في المقام، سيَّما مع خلوِّ ما ذهبوا إليه في المسألة مِنَ الدَّليل».
أقول: وإنِ احتمل أنَّ المحقِّق (رحمه الله) عثر عليه فيما عنده مِنَ الأصول، بل نظنُّ ذلك، إلاَّ أنَّها تبقى رواية مرسلة؛ إذ لم يذكر طريقه إلى الأصل.
ومنها: أنَّ الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف أرسل أخباراً بذلك.
وفيه: أنَّه لا يُعمَل بهذه المراسيل، فالرَّوايات حينئذٍ ضعيفة.
ومنها: حسنة الفضلاء المتقدِّمة على ما في نسخة الوسائل نقلاً عَنِ الكافي في المرتبة الرَّابعة، حيث قال فيها: «فإذا بلغتْ تسعينَ ففيها ثلاث تبايع حَوْليات».
ومِنَ المعلوم أنَّ تبايع جمع تَبِيعة، كما أنَّها تجمع على تباع، مثل مليحة وملاح.
وأمَّا التَّبيع الذي هو مذكَّر فإنَّه يجمع على أتبعة، مثل رغيف وأرغفة.
ويشهد أيضاً لكون التَّبايع جمع مؤنث لتبيعة: تذكير اسم العدد، وهو ثلاث؛ إذ لو كانت تبايع للمذكر، لكان الصَّحيح أن يقال: ثلاثة لا ثلاث.
قال ابن مالك في ألفيته:
ثلاثةً بالتَّاء قُلْ للعشَرهْ... في عَدِّ ما آحادُه مذَكَّرَهْ
في الضدِّ جرِّد والمميِّز اجرُر... جمعاً بلفظ قلَّة في الأكثر
إن قلت: إنَّ صاحب الحدائق (رحمه الله) نقلها هكذا: «فإذا بلغتْ تسعينَ ففيها ثلاث تَبِيعات حَوْليات»، بصيغة الجمع المؤنث السَّالم، فلا تكون هذه الحسنة دليلاً للتَّخيير؛ لأنَّ هذه الصِّيغة أي صيغة الجمع المؤنث السَّالم يصحُّ أن تقع صفةً للجمع المذكَّر من غير ذوي العقول، فيجوز أن يراد بها ثلاثة أتبعة، كما أنَّه يصحُّ أن تكون جمعاً للمؤنث.
وعليه، فلا تدلُّ هذه الصِّيغة على أنَّ مفردها هو تَبِيع أو تَبِيعة.
قلتُ: إنَّ هذه النُّسخة التي نقلها صاحب الحدائق (رحمه الله) مخالفة لِمَا عليه نُسْخة الكافي والوسائل، فلا وثوق بها.
والإنصاف: أنَّ هذا الدَّليل الثَّالث للتَّخيير قويٌّ، ومقتضى الجمع بين المرتبة الأولى «في كلِّ ثلاثين بقرة تبيع حَوْلي»، وفي المرتبة الرَّابعة «فإذا بلغتْ تسعينَ ففيها ثلاث تبايع...»، هو التَّخيير بين التَّبيع والتَّبيعة، وإن كان الأحوط عدم إجزاء التَّبيعة، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 4 من أبواب زكاة الأنعام ح1.
([2]) الوسائل باب 10 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح1.