الدرس 3 _ مقدمات علم الأصول 3
الأمر الثاني: أقسام العَرَض السبعة
القسم الثالث: عروضه على الموضوع بواسطة داخلية أعمّ:
أي النسبة بينها وبين الموضوع عموم مطلق؛ كعروض الحركة الإرادية على الإنسان بواسطة داخلية أعمّ من ذاته، وهي الحيوانية.
القسم الرابع: عروضه على الموضوع بواسطة خارجية مساوية:
أي خارجة عن ذات الموضوع غير مقوِّمة له، ومساوية له؛ كعروض الضحك على الإنسان بواسطة التعجّب المساوي للإنسان والخارج عن ذاته؛ أي غير مقوِّم لها.
القسم الخامس: عروضه على الموضوع بواسطة خارجية أعمّ:
كعروض التحيّز على الأبيض بواسطة الجسمية الأعم من الأبيض والخارجة عن ذاته.
القسم السادس: عروضه على الموضوع بواسطة خارجية أخصّ:
كعروض الرفع على الكلمة بواسطة الفاعلية الأخص من الكلمة والخارجة عن ذاتها.
القسم السابع: عروضه على الموضوع بواسطة مباينة له:
كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار المباينة للماء. وإنَّما لم يكن هناك واسطة داخلية أخصّ خلافاً للخارجية؛ لأنَّ الداخلية مقوِّمة لذات الموضوع المعروض عليه، ولا يكون المقوِّم أخصّ من المقوَّم؛ إذ لا يمكن للناطقية أن تكون مختصة بالكاتب والحال أنَّها مقوِّمة للإنسان. أمّا الواسطة الخارجية، فهي خارجة عن ذات الموضوع، غير مقوِّمة له، وبالتالي لا ضير في أن تكون مساوية أو أعم أو أخص من المعروض عليه.
الأمر الثالث: العرض الذاتي والغريب
بناءً على ما ذكره صاحب الكفاية من أنَّ موضوع العلم: هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيَّة، فما معنى العرض الذاتي؟ وأي من الأقسام السبعة المتقدِّمة منه؟
أمّا العرض الذاتي، فهو ما يعرض على الموضوع لذاته؛ أي إنَّ ذات الموضوع تقتضي هذا العروض، بلا حاجة إلى واسطة خارجة عن ذات الموضوع، فحينئذٍ ما يعرض بلا واسطة خارجة عن ذات الموضوع، هو عرض ذاتي، ويقابله العرض الغريب؛ أي الذي يعرض بواسطة خارجية.
إذا عرفت ذلك، فنقول: اتَّفق الأصحاب على أنَّ القسم الأوّل من الأعراض؛ أي العارض على الموضوع بلا واسطة بمقتضى ذاته، هو من الأعراض الذاتية بلا إشكال، وكذا القسم الثاني؛ أي العارض على الموضوع بواسطة داخلية مساوية؛ لأنَّ الواسطة الداخلية من ذاتيات الموضوع، فيكون العروض بمقتضى الذات.
واتفقوا على أنّ القسم الخامس؛ أي العارض على الموضوع بواسطة خارجية أعم، والقسم السادس؛ أي العارض على الموضوع بواسطة خارجية أخصّ، والقسم السابع؛ أي العارض على الموضوع بواسطة مباينة له جميعها من الأعراض الغريبة.
واختلفوا في القسم الثالث؛ أي العارض على الموضوع بواسطة داخلية أعمّ، والقسم الرابع؛ أي العارض على الموضوع بواسطة خارجية مساوية، فذهب مشهور المتقدِّمين إلى أنَّ العارض بواسطة داخليةٍ أعمُّ من الأعراض الغريبة، بينما ذهب مشهور المتأخرين إلى أنَّه من الأعراض الذاتيَّة.
ولكن الإنصاف: أنَّ القسم الثالث من الأعراض الذاتية؛ لما تقدّم من أنَّ الواسطة الداخلية سواء كانت مساوية أم أعم، هي من ذاتيّات الموضوع، فيكون العروض عليه باقتضاء ذاته.
وبناءً على ما تقدم، فإنَّ المبحوث عنه في العلم، هو ما يُبحث فيه عن العرض الذاتي لموضوعه، وهو منحصر بالأقسام الثلاثة المتقدِّمة.
فيشكل حينئذٍ بخروج جلّ مسائل كلّ علم عن العلم الذي يُبحث فيه؛ مثلاً لو تأملنا في علم الفقه، فإنّا نجد موضوعه (فعل المكلف)، وما يعرض عليه هي الأحكام الشرعية بواسطة المصالح والمفاسد؛ أي الملاكات الكامنة في متعلَّقاتها، ولكنَّ هذه المصالح والمفاسد واسطة مباينة لفعل المكلف. وكذا في علم الأصول، فإنّا نجد أنَّ في مبحث (خبر الواحد حجة) مثلاً، تعرض الحجية على خبر الواحد لا باقتضاء ذاته، بل بواسطة التشريع أو بناء العقلاء، وهذه واسطة مباينة لخبر الواحد. وكذا في علم النحو، ففي قضيَّة (الكلمة مرفوعة حال كونها فاعلاً)، عرض الرفع على الكلمة بما هي فاعل؛ أي بواسطة الفاعلية التي هي واسطة خارجية أخص من الكلمة؛ لأنّ الفاعلية بالنسبة للكلمة كالنَّوع بالنسبة إلى الجنس. فيلزم من ذلك أن تكون مسائل علم الفقه، وجلّ مسائل علم الأصول وعلم النحو ونحوهما، خارجة عن العلم الذي تُبحث فيه هذه المسائل؛ لأنَّها من الأعراض الغريبة بناءً على تعريفهم العرض الغريب.
ومن هنا التجأ صاحب الكفاية إلى تفسير العرض الذاتي بمعنى آخر؛ حيث فسّره بأنَّه ما يُحمل على الموضوع بلا واسطة في العروض؛ أي حملاً حقيقياً لا مجازياً، فأرجع بهذا التفسير مسائل العلوم إلى كنفها. وتوضيحه: الواسطة على أقسام ثلاثة:
القسم الأوّل: الواسطة في الثبوت، وهي ما كانت علّة في العروض؛ كما في قضية (الماء حار)، فالنار واسطة ثبوتية، وعلَّة حقيقية لعروض الحرارة على الماء.
القسم الثاني: الواسطة في الإثبات: وهي ما كانت علّة للعلــــم بالشيء، كالدخان واسطة إثباتية؛ أي علَّة للعلم بوجود النار.
القسم الثالث: الواسطة في العروض: ويُعبَّر عنها بالواسطة في الحمل؛ كما في قضية (الميزاب جارٍ)؛ فإنّ حمل الجريان على الميزاب بواسطة جريان الماء فيه؛ فالذي يجري حقيقة هو الماء، وبواسطته يعرض الجريان على الميزاب، وعليه فيكون حمل الجريان على الميزاب حملاً مجازياً غير حقيقي.
إذا عرفت ذلك، فنقول: تفسير صاحب الكفاية للعرض الذاتي وجّه البوصلة نحو ما يقابل القسم الثالث من أقسام الواسطة؛ أي ما يكون فيه الحمل حقيقياً، وبالتالي في مثل (خبر الواحد حجة) لمّا كان حمل الحجية على خبر الواحد حملاً حقيقياً، كانت هذه المسائل وأخواتها من مسائل علم الأصول بلا إشكال، وكذا بقية المسائل التي تقدّمت الإشارة إليها.
جوابنا: إنّا في إنكارنا للّابديّة أن يكون لكلِّ علم موضوع وحداني من جهة، وإثباتنا استحالة ذلك أحياناً، أغنينا أنفسنا عن الخوض في بحث العوارض والوسائط؛ ذلك أنَّ هذا متفرع على ما أنكرناه، فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.
والإنصاف بنظرنا: أنَّ كلّ علم مركَّبٌ من قضايا متعدِّدة موضوعاً ومحمولاً، يجمعها اشتراكها في الغرض، فكلّ ما يكون له دخالة في ترتب الغرض يُبحث فيه.
موضوع العلم نفس موضوعات مسائله:
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «إن موضوع كلّ علم... هو نفس موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده».
يقول: إنَّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله؛ فموضوع علم النحو (الكلمة)، ومن موضوعات مسائله في مثل: (الفاعل مرفوع)، (المفعول به منصوب)، (المضاف إليه مجرور)، هي الفاعل والمفعول به والمضاف إليه، فموضوع علم النحو الذي هو (الكلمة) ينطبق على موضوعات مسائله خارجاً انطباق الكلّي على مصاديقه، وهكذا بقيَّة العلوم.
وقد يشكل عليه: بأنَّ موضوع المسألة في النحو في مثل قولك: (الفاعل مرفوع)، هو الكلمة بشرط الفاعلية، وكذا في قولك: (المفعول به منصوب)، هي الكلمة بشرط المفعولية، فيختلف موضوع العلم عن موضوعات مسائله؛ لأنَّ موضوع العلم هو (الكلمة لا بشرط)، وموضوع مسائله هو (الكلمة بشرط شيء).