الدرس 4 _تعريف الزكاة، ووجوبها وجملة من فوائدها 4
الفائدة الخامسة: المعروف بين الأعلام أنَّه ليس في المال حقٌّ واجب بأصل الشَّرع ابتداءً، سوى الزَّكاة زكاة المال، وزكاة الفطرة والخمس.
ويدلُّ على ذلك -مضافاً إلى الأصل- : السِّيرة القطعيَّة بين المسلمين، خصوصاً بعد ملاحظة ما ورد من الرِّوايات في فرض الزَّكاة، وأنَّه لو علم الله تعالى عدم سدِّ حاجة الفقراء بها لافترض غيرها.
وقد يستدلُّ أيضاً برواية مَعْمَر بن يحيى «أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام)، يَقُولُ: لَا يَسْأَلُ الله (عز وجل) عَبْداً عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَلَا عَنْ صَدَقَةٍ بَعْدَ الزَّكاة...»([1])، ولكنَّها ضعيفة بجهالة محمَّد بن خالد الأصمِّ، وأمَّا عليُّ بن محمَّد بن الزُّبير، القرشي الواقع في إسناد الشَّيخ إلى عليِّ بن الحسن بن فضَّال، فهو مِنَ المعاريف ما يكشف عن حُسْن حاله.
هذا، وقد حُكِي عنِ الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف وجوب حقٌّ آخر في المال سوى الزَّكاة المفروضة، وهو ما يخرج يوم الحصاد مِنَ الضَّغث بعد الضَّغث، والحفنة بعد الحفنة، يوم الجذاذ إذا حضره المسكين، وإذا لم يحضر حتَّى يدخل الغلَّة في المنزل فيسقط الوجوب.
واحتُجَّ عليه بإجماع الفرقة، وأخبارهم، وقوله تعالى: « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعَام: 141].
وفيه: أمَّا الإجماع المدَّعى، فهو مِنَ الغرائب؛ إذ لا مخالف صريح في المسألة، إلاَّ ما حُكِي عَنِ الشَّيخ (رحمه الله)، فكيف يُدَّعى الإجماع، خصوصاً مع عموم البلوى بالمسألة، بل السِّيرة مستمرة على عدم الوجوب، وأمَّا الأخبار فسيأتي ذكرها، وأنَّه يستفاد منها الاستحباب.
وأمَّا الآية الشَّريفة، فيجاب عن الاستدلال بها أوَّلاً: باحتمال أن يكون المراد بالحقِّ الزَّكاة المفروضة، كما ذَكَره جمع مِنَ المفسِّرين.
ولكن في المدارك بعد نقل هذا الجواب قال: «ولكن ورد في أخبارنا إنكار ذلك، روى المرتضى (رضي الله عنه) في الانتصار، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، قال: ليس ذلك الزَّكاة، أَلَا ترى أنّه تعالى قال: « وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين ﴾ [الأنعَام: 141]، قال المرتضى (رضي الله عنه): وهذه نكتة منه (عليه السلام) مليحة، لأنَّ النَّهي عَنِ السَّرف لا يكون إلاَّ فيما ليس بمقدَّر، والزَّكاة مقدَّرة».
أقول: هذه الرِّواية ضعيفة بالإرسال، فلا يمكن الاعتماد عليها، هذا أوَّلاً.
وثانياً: أنَّ الأمر في الآية الشَّريفة يحمل على الاستحباب؛ وذلك لروايتَيْن:
الأُولى: حسنة زرارة ومحمَّد بن مسلم وأبي بصير كلّهم عن أبي جعفر (عليه السلام) «فِي قَوْلِ الله (عز وجل) : « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، فَقَالُوا جَمِيعاً: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): هذَا مِنَ الصَّدَقَةِ تُعْطِي الْمِسْكِينَ الْقَبْضَةَ بَعْدَ الْقَبْضَةِ، وَمِنَ الْجَذَاذِ (الْجَدَادِ) الْحَفْنَةَ بَعْدَ الْحَفْنَةِ حَتّى يَفْرُغَ...»([2]).
وجه الدَّلالة: أنَّ المتبادر من قوله (عليه السلام): «هذا مِنَ الصَّدقة»، الصَّدقة المندوبة.
الثَّانية: رواية معاوية بن شُرَيح «قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: فِي الزَّرْعِ حَقَّانِ: حَقٌّ تُؤْخَذُ بِهِ، وَحَقٌّ تُعْطِيهِ، قُلْتُ: وَمَا الَّذِي أُوخَذُ بِهِ؟ وَمَا الَّذِي أُعْطِيهِ؟ قَالَ: أَمَّا الَّذِي تُؤْخَذُ بِهِ فَالْعُشُرُ، وَنِصْفُ الْعُشُرِ؛ وَأَمَّا الَّذِي تُعْطِيهِ، فَقَوْلُ الله (عز وجل) : « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، يَعْنِي مِنْ حضرك (حَصْدِكَ) الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ: الضِّغْثَ ثُمَّ الضِّغْثَ حَتّى يَفْرُغَ»([3]).
وهذه الرِّواية ظاهرة جدّاً في الاستحباب؛ لأنَّ مقابلة الحقِّ الذي يعطيه بالذي يُؤخَذ به ظاهر في أنَّه لا يُؤخَذ بهذا الحقِّ الذي يعطيه، والمتبادر مِنَ الأخذ به العقاب على تركه، وهو هنا كناية عنِ الوجوب، ولكنَّها ضعيفة لعدم وثاقة معاوية بن شُرَيح.
أقول: وممَّا يؤكِّد عدم الوجوب أنَّه لا تقدير للإعطاء، بل يعطي على قدر سخائه، فيعطي قبضةً مِنَ السُّنبل، أو قبضتين، أو أكثر، أو حفنةً مِنَ التَّمر، أو حفنتَيْن، أو أكثر، أي كفّاً أو كفَّيْن أو أكثر.
وممَّا يؤكِّد عدم الوجوب أيضاً: هو أنَّه إن لم يحضروا حين الحصاد سقط الوجوب بالاتِّفاق حتَّى عند مَنْ قال بوجوبه فيما لو حضروا، ولو كان واجباً لمَا سقط إذا لم يحضروا، كما يفهم من موثقة شعيب العقرقوفي الواردة في تفسير عليِّ بن إبراهيم «قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله (عز وجل) : « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾؟ قال: الضَّغث مِنَ السُّنبل، والكفُّ مِنَ التَّمرِ إذا خُرِّص.
قَاْل: وسألتُه هل يَسْتَقيمُ إعطاؤه إذا أَدْخَله؟ قَاْل: لَاْ، هُوَ أَسْخَى لِنَفْسِه قَبَلَ أَنْ يُدْخِلَه بيَتَه»([4])، وهي واضحة في سقوطه إذا لم يحضر المسكين حين الحصاد، وأدخل الغلَّة إلى البيت.
ويفهم ذلك أيضاً من صحيحة سعد بن سعد الواردة في تفسير علي بن إبراهيم أيضاً عَنِ الرِّضا (عليه السلام) «قَاْلَ: قُلْتُ لَه: إِنْ لَمْ يَحْضرَ المسَاكينَ وَهُوَ يَحْصُدُ، كيفَ يَصْنَعُ؟ قَاْل: لَيْسَ عَلَيْه شَيءٌ»([5]).
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في عدم الوجوب، كما أنَّه لا إشكال في الاستحباب.
ويؤيِّد الاستحباب جملة من الرِّوايات مذكورة في تفسير العياشي، وكلّها ضعيفة بالإرسال:
منها: رواية زرارة وحمران ومحمَّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) «في قوله: « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، قَاْلَا: يُعْطَى منه الضَّغْثُ بَعْد الضَّغْثِ، ومِنَ السُّنبلِ القَبْضَةُ بعد القَبْضَةِ»([6]).
ومنها: رواية جرَّاح المدَائِني عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في قوله: « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال: تُعْطَي منه المساكينَ الَّذين يَحْضَرُونَك، تَأْخُذُ بيدِكَ القَبْضَةَ بَعْدَ القَبْضَةِ حتَّى تَفْرُغَ»([7])، وهي مضافاً لضعفها بالإرسال ضعيفة أيضاً بعدم وثاقة جرَّاح المدائني.
ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في قوله تعالى: « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾: فسمَّاه الله حقّاً، قَاْل: قلتُ: وما حقّه يوم حصاده؟ قال: الضَّغْث تناوله مَنْ حَضركَ مِنْ أهلِ الخصاصة»([8]).
ومنها: رواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: سألته عن قول الله (عز وجل) : « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، كيف يُعطَى؟ قال: تقبضُ بيدك الضَّغثَ فتعطيه المسكينَ ثمَّ المسكينَ، حتَّى تفرغَ، وعند الصّرام الحفنة ثمَّ الحفنة، حتَّى تفرغَ منه»([9])، وإنَّما جعلنا هذه الرِّوايات الموجودة في تفسير العياشي مؤيِّدة، وليست دليلاً لضعفها بالإرسال.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب ما تجب فيه الزَّكاة، وما تستحبُّ فيه ح12.
([2]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح1.
([3]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح2.
([4]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح4.
([5]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح5.
([6]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح7.
([7]) الوسائل باب 13 من أبواب زكات الغلاَّت ح8.
([8]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الغلاَّت ح9.
([9]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الغلاَّت ح10.