الدرس 130 _ المقصد الأول في الاوامر 62
المبحث الثالث تقسيمات الواجب
التقسيم الأوّل: الواجب المطلق والمشروط
قال صاحب الكفاية R: «الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط، وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض والإبرام... وإلا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور، لا أقل من الشرائط العامة، كالبلوغ والعقل».
نقول: أوّلاً: اشتهر هذا البحث في عناوين كتب الأصول ب(الواجب المطلق والمشروط) ممّا سبّب إرباكاً للمحصلين؛ ذلك أنّ النزاع في الوجوب المطلق والمقيد.
ثانياً: إنّ المراد بالإطلاق والاشتراط خصوص الإضافيّين لا الحقيقيّين؛ مثلاً وجوب صلاة الظهر مطلق بالإضافة إلى الإحرام والزواج، ومشروط بالإضافة إلى الزوال، فلا وجوب مطلق بالإضافة إلى كلّ الجهات، ولا وجوب مشروط بالإضافة إلى كل الجهات، بل قد يكون وجوب واحد مطلقاً من جهة ومشروطاً من جهة أخرى.
ثالثاً: إنّ الكلام في غير الشرائط العامة من البلوغ والعقل والقدرة، وإلا لكان كل وجوب مشروط بالإضافة إلى هذه الجهات العامة.
رابعاً: إنّه ما من اصطلاح خاص لدى الأصوليين بالنسبة للمطلق والمشروط، بل معناهما في الأصول هو نفسه المستعمل في اللغة، فلا ينبغي إضاعة الوقت في الوقوف على التعاريف التي ذكرت في هذا الصدد والإشكال عليها طرداً وعكساً؛ كتعريف المشهور أو الشيخ القمي أو العضدي أو غيرهم.
إذا عرفت ذلك، فنأتي على ذكر النزاع المعروف بين المشهور وما نسبه المقرر للشيخ الأنصاري R. فنقول: ذكرنا سابقاً أنّ المولى قد أنشأ الأحكام الشرعية على نحو القضية الحقيقية؛ حيث يفرض وجود موضوع ثمّ يرتّب الحكم عليه. فإذا كانت القضية الشرعية حملية خبرية؛ مثل (المستطيع يجب عليه الحج)، فلا إشكال في أنّ الشارع أنشأ وجوب الحج على فرض وجود المستطيع؛ بحيث إذا انطبق عنوان المستطيع على زيد وجب عليه الحج.
وأمّا إذا كانت القضية الشرعية شرطية؛ مثل (إذا جاء زيد فأكرمه)، فقد وقع الخلاف بين مشهور الأعلام وبين الشيخ الأنصاري على ما نسبه إليه المقرّر، وحاصله: إنّ المقيد بالمجيء لا يخلو إمّا هو مفاد هيئة (أكرمه)؛ أي المنشأ، وهو وجوب الإكرام، أو أنّه المادة؛ أي متعلق الواجب، وهو الإكرام نفسه.
ثمّ قال صاحب الكفاية R: «ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة، ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاءك زيد فأكرمه)، كون الشرط من قيود الهيئة، وأن طلب الإكرام وإيجابه معلق على المجيء، لا أن الواجب فيه يكون مقيداً به، بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعلياً ومطلقا، وإنّما الواجب يكون خاصاً ومقيداً، وهو الإكرام على تقدير المجيء، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، مدعياً لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعاً، ولزوم كونه من قيود المادة لباً، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنّه من قيود الهيئة ظاهرا».
وعليه، فإنّ الشيخ الأنصاري ذهب إلى أنّ المقيّد في القضايا الشرطية هي المادة؛ أي الواجب، مستدلاً بدليلين، هما: استحالة رجوع القيد إلى الهيئة، وشهادة الوجدان برجوع القيد إلى المادة لبّاً. بينما ذهب المشهور إلى رجوع القيد إلى مفاد الهيئة؛ أي المنشأ، وهو الوجوب.
وفي مقام تصوير دليل الشيخ الأوّل على استحالة تقيد الهيئة، ذكرت وجوه ثلاثة:
وجوه استحالة تقييد الهيئة:
الوجه الأوّل: إنّ هيئة الأمر (اِفْعَلْ) معنى حرفي، وهو معنى جزئي حقيقي؛ لأنّه من الوضع العام والموضوع له الخاص. وإذا كان المعنى الحرفي معنى جزئياً لا يقبل الصدق على أكثر من واحد، وبالتالي لا حصص فيه، فيستحيل فيه الإطلاق والتقييد؛ لأنّهما فرع وجود حصص؛ فإنّما صحّ تقييد العالم بالهاشمي في قولنا: (أكرم العالم الهاشمي)؛ لأنّ العالم معنى كلي يصدق على حصص متعددة منها الهاشمي وغيره.
وفي تقريرات الشيخ النائيني عن السيد الشيرازي الكبير R أنّه ليس مراد الشيخ الأنصاري استحالة تقييد مفاد الهيئة؛ أي المنشأ، وإنّما مراده استحالة تقييد الإنشاء؛ لأنّه إمّا موجود أو معدوم، إلا أنّ المذكور في التقريرات هو المنشأ، والأمر سهل؛ إذ غايتنا مناقشة هذه الوجوه المذكورة في البين بقطع النظر عن صحة نسبتها إليه R.
الوجه الثاني: وقد ذكر هذا الوجه الميرزا النائيني R، وحاصله: إنّه لا يمكن رجوع القيد إلى الهيئة لا لأنّها معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي حقيقي لا حصص فيه، بل لأنّ المعنى الحرفي آلي غير استقلالي، فهو مغفول عنه حين الاستعمال؛ إذ يلاحظ آلة لغيره، ولا يلاحظ مستقلاً حين الاستعمال، فلا يقبل الإطلاق والتقييد؛ لأنّهما صفتان للمعاني المستقلّة.
الوجه الثالث: وقد عبّر السيد الخوئي R عن هذا الوجه بالوجه الأهمّ وأنّه العمدة، وحاصله: إنّه يلزم من رجوع القيد إلى الهيئة التفكيك بين الإنشاء والمنشأ، وهو مساوق للتفكيك بين الإيجاد والوجود، وهو محال؛ إذ كما أنّه لا يعقل التفكيك بين الأخيرين خارجاً؛ حيث إنّهما واحد ذاتاً وحقيقة، والاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار. كذلك الحال في التشريعات.
وبالجملة، فإيجاب المولى ووجوبه إنّما يتحققان بنفس إنشائه؛ فلا فرق بينهما إلا بالاعتبار؛ إذ بملاحظة فاعله (إيجاب)، وبملاحظة قابله (وجوب)؛ كما هو الحال في الإيجاد والوجود التكوينيين.
أمّا ما قيل من أنّه يستحيل رجوع القيد إلى المنشأ؛ لأنّه من قبيل التعليق في العقود، وهو محال؛ فمردود بأنّ التعليق في العقود ليس محالاً عقلاً، وإنّما دلّ على منعه الإجماع، وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن، ومن هنا لم يشمل مثل الوكالة التي صحّ التعليق فيها على خلاف، وكذا المساقاة ونحوها، وتفصيله في علم الفقه.