الدرس 98 _ المقصد الأول في الاوامر 30
المراد من المرة والتكرار:
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟ والتحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محل النـزاع، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول، وتوهم أنَّه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الأنسب، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أنَّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى، فاسد، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا».
حاصل ما ذكره صاحب الكفاية أنَّ المرة والتكرار لهما معنيان:
الأوّل: هو أنَّهما بمعنى الفرد والأفراد؛ أي وجود واحد ووجودات متعدّدة.
الثاني: هو أنَّهما بمعنى الدفعة والدفعات لا الفرد والأفراد؛ حيث يمكن أن تكون عدّة أفراد دفعة مقابل الدفعات بعد ذلك.
ثمَّ إنَّ النسبة بين المرة بالمعنى الأوّل والثاني؛ أي بين الفرد والدفعة، هو العموم من وجه؛ حيث يجتمعان فيما لو أُتي بفرد واحد دفعة واحدة؛ أي بوجود لا يتعقّبه وجود آخر. وقد نجد دفعة بدون فرد؛ كما لو أُتي بعدّة أفراد دفعة واحدة، كما قد نجد فرداً بدون دفعة؛ كما في الوجود المتصل مثل الكلام، فهو فرد ولا يسمى دفعة لاتصاله.
إذا عرفت معنيي المرة والتكرار، فنسأل ما هو المراد منهما بالنسبة لدلالة الأمر؟
قد يقال: إنَّ المراد منهما فيما نحن فيه هو الدفعة والدفعات؛ بدليلين:
الأوّل: التبادر؛ إذ المتبادر منهما الدفعة والدفعات.
وفيه: هذه مجرد دعوى لا دليل عليها من جهة، ثمَّ لو سلّمنا بحصول تبادر الدفعة والدفعات منهما إلا أنَّه لم يثبت أنَّه حصل من حاق اللفظ؛ إذ قد يكون من قرينة خارجية.
الثاني: ذكر صاحب الفصول (رحمه الله) أنَّه لو كان المراد منهما الفرد والأفراد لكان هذا المبحث تتمّة للبحث الآتي حول أنَّ الأمر هل هو متعلق بالطبيعة أم بالأفراد؟ وذلك بناءً على أنَّ الأمر متعلق بالأفراد لا بالطبيعة؛ حيث يقال: هل إطلاق الصيغة يقتضي الفرد أم الأفراد؟ بينما لو قلنا أنَّ معناهما الدفعة والدفعات لكان ما نحن فيه مستقلاً برأسه وغير تابع للمبحث الآتي.
أجاب صاحب الكفاية وجماعة بنفي الملازمة بين القول بأنَّ معنى المرة والتكرار الفرد والأفراد وبين أن يكون هذا المبحث تابعاً للمبحث الآتي إذا قلنا بأنَّ الأمر متعلّق بالأفراد لا بالطبيعة.
توضيح منشأ الإشكال: إنَّه في المبحث الآتي يدور الكلام حول تعلّق الأمر بالفرد أو بالطبيعة، ومع تبنّي أنَّ المراد بالمرة والتكرار هنا هو الفرد والأفراد، يكونان بحثاً واحداً لانصبابهما على عنوان واحد، وهو (الفرد)، إلا أنَّ الفرد هنا وهناك وإن اشتركا لفظاً إلا أنَّ معناه فيما نحن فيه هو الوجود الواحد، بينما معناه في المبحث الآتي هو الوجود مع لوازمه.
بيانه: ذكرنا سابقاً أنَّ الشيء يتشخّص بنفسه لا بلوازمه، وإن كان لكلّ موجود في الخارج لوازمه.
وعليه، نقول: إنَّ الملحوظ فيما نحن فيه هو الفرد بوجوده بقطع النظر عن لوازمه؛ فالمراد من قولنا: (صلِّ) هو إيجاد فرد واحد من الصلاة بقطع النظر عن مشخّصاتها؛ بحيث لو أمكن الإتيان بها بلا لوازمها من الأين والمتى والكيف والوضع والكيف لكفى، وإن كانت الصلاة لا يؤتى بها خارجاً بلا لوازمها، فالغرض من ذلك هو نقض العدم فحسب.
أمّا الملحوظ في مبحث تعلق الأمر بالفرد في المسألة الآتية، فهو وجود الفرد مع لوازمه ومشخصاته الخارجية مقابل الطبيعة؛ بأن يكون تعلّق الأمر بها بما هي حاكية عن أفرادها مع قطع النظر عن مشخّصات الأفراد؛ إذ من المعلوم أنَّ الأمر ليس متعلقاً بالطبيعة بما هي.
وإذا اتضح التغاير المعنوي بين معنى الفرد هنا وهناك ارتفع إشكال وحدة البحثين. وعليه، يجري النـزاع حول دلالة الأمر على المرة أو التكرار سواء قلنا بالمعنى الأوّل أم الثاني.
والإنصاف: أنَّ الأمر لا يدل على الفرد والأفراد ولا على الدفعة والدفعات لا بمادته ولا بهيئته؛ لما تقدّم من أنَّ الهيئة عبارة عن نسبة إيقاعية إيجادية بين المبدأ والمخاطب، فلا دلالة لها على هذه المعاني ولا غيرها من الخصوصيات. وأمّا المادة (الصلاة)، فقد ذكرنا أنَّها موضوعة للماهية المهملة المعرّاة عن جميع الخصوصيات، ومنها هذه المعاني للمرة والتكرار.
أدلّة التكرار:
ذهب البعض إلى دلالة الأمر على التكرار، وقد ذكروا لذلك أدلّة ثلاثة:
الدليل الأوّل: ما ورد عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أيها الناس إنَّ الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلُّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثمَّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»([1]).
شاهد الاستدلال في قوله (صلى الله عليه وآله): «فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وهذا ظاهر في دلالته على أنَّ مفاد الأمر التكرار. وفيه: أوّلاً: أنَّ هذه الرواية ضعيفة جداً سنداً.
ثانياً: أنَّ دلالتها تؤيّد خلاف ما يراد الاستدلال عليه؛ لقوله (صلى الله عليه وآله): «لو قلت نعم لوجبت»؛ أي تكرار الحجّ في كلّ عام متوقف على قوله (نعم)، ولم يحصل ذلك.
ثالثاً: أنَّ جماعة من الأعلام حملها على أنَّ المراد من قوله (صلى الله عليه وآله): «فأتوا منه ما استطعتم»؛ أي إذا كان الواجب مركّباً من أجزاء وشرائط، وتعذَّر الإتيان بجميعها، فأتوا بالمقدور منها، ولا تتركوه بالمرّة. وعلى هذا الحمل تكون الرواية أجنبية عن المقام.
الدليل الثاني: لو لم يكن الأمر دالاً على التكرار لما وجبت الصلاة في كلّ يوم؛ لقول الشارع: (صلّوا)، ولما وجب الصيام كذلك كلّ عام. وفيه: أنّا لا نمانع أن يدلّ الأمر على التكرار بدليل خارجي كما هو الحال في مثل الأمر بالصلاة والصوم، ولكن الكلام عن دلالة الأمر بنفسه؛ أي بهيئته ومادّته على ذلك.
الدليل الثالث: وهو عمدة ما استدلّ به على التكرار، وحاصله: إنَّ الأمر مثل النهي، فكما أنَّ النهي لا يتحقق إلا بترك كلّ أفراد الطبيعة الطولية والعرضية، فكذلك الأمر لا يتحقق إلا بإتيان أفرادها كذلك.
([1]) صحيح مسلم باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره ج4، ص102.