الدرس 57 _ التكسّب الحرام وأقسامه (52). أحدها: أحدها: ما حرم لعينه: السحر.
ثمَّ إنَّه بقي شيء في المقام، وهو أنَّه هل يحكم على ساحر المسلمين بالكفر أم لا؟
أقول: إذا كان مستحلّاً للسِّحر فيُحْكم بكُفْره، كما هو واضح؛ لأنَّه منكر لضرورة من ضرورايات الدِّين.
وأمَّا إذا لم يكن مستحلّاً فلا وجه حينئذٍ للحكم بكفره، فلا يجري عليه أحكام الكافر من قِسْمة أموال، وبينونة زوجته، والحكم بنجاسته.
أضف إلى ذلك: أنَّ سيرة المسلمين من زمان المعصوم (عليه السَّلام) إلى يومنا هذا على عدم معاملته معاملة الكافر.
وما في جملة من الرِّوايات من كون السَّاحر كافراً فلا بد من حَمْلها على مستحلِّ السِّحْر أو أنَّه يدعي بسِحْره الرِّسالة أو يدَّعي به ما لا يقدر عليه إلَّا الله، كما في رواية يوسف بن محمَّد بن زياد، وعليّ بن محمَّد بن سيَّار عن أبويهما عن الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام) الواردة في قُصَّة هاروت وماروت، حيث ورد فيها: فَلا تَكْفُرْ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا السِّحْرِ، وَطَلَبِ الْإِضْرَارِ بِهِ، وَدُعَاءِ النَّاسِ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّكَ بِهِ تُحْيِي وَتُمِيتُ، وَتَفْعَلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ...إلخ[1] ولكنَّها ضعيفة بجهالة أكثر من شخص.
ويؤيِّد ما ذكرناه، بل يدلُّ عليه ما في معتبرة السَّكوني المتقدِّمة من أنَّ ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفَّار لا يقتل، إذ لو كان ساحر المسلمين كافراً لما كان هناك فرق بينه وبين ساحر الكفار من حيث الحكم، والله العالم.
الأمر الثاني: في جواز دفع السِّحر بالسِّحر.
المعروف بين الأعلام: أنَّه يجوز دفع السِّحر بالسِّحر.
وعن جماعة من أفاضل العامليين، كالمصنِّف والشَّهيد الثَّاني والمحقِّق الميسيّ (رحمهم الله) المنع من ذلك، إلَّا مع انحصار سبب الحلِّ فيه، بل عن المصنِّف هنا والشَّهيد الثَّاني في الرَّوضة أنَّه ربَّما وجب كفاية للتوقِّي، ودفع مدِّعي النُّبوَّة أو الإمامة.
وقدِ استدلَّ للمشهور -أي القول الأوَّل القائل بالجواز مطلقاً- بعدَّة أدلَّة:
منها: دعوى انصراف الأدلَّة الدَّالَّة على التَّحريم إلى غير ما قُصِد به غرض راجح شرعاً. وفيه: أنَّ هذه الدَّعوى عهدتها على مدَّعيها. وبالجملة، فلو كان هناك انصراف فهو بدويٌّ يزول بالتأمُّل.
ومنها: الآية الشَّريفة الواردة في قصَّة هاروت وماروت ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، بدعوى أنَّ السِّحر لو لم يكن جائزاً لم يجز تعليمه أصلاً. وعليه، فجواز التعليم يدلُّ على جواز العمل به في الجملة، والقدر المتيقَّن منه هو دفع السِّحر به. وأمَّا ما ذُكِر في بعض التفاسير للآية الشَّريفة، بحيث يخرجها عن محلِّ الاستدلال. ففيه: أنَّ هذه التَّفاسير ليست بحجَّةً تصلح للاعتماد عليها.
والخلاصة: أنَّ هذا الاستدلال جيِّد.
ومنها: جملة من الرِّوايات:
الأولى: رواية الاحتجاج قال -أي الزِّنديق للإمام الصَّادق (عليه السَّلام)-: قال: فأخبرني عن السِّحْر ما أصله، وكيف يقدر السَّاحر على ما يُوصَف من عجائبه، وما يفعل؟ قال: إنَّ السِّحْر على وجوه شتَّى وجه منها بمنزلة الطَّب، كما أنَّ الأطباء وضعوا لكلِّ داء دواء، فكذلك عِلْم السِّحْر احتالوا لكلِّ صحَّة آفة، ولكلِّ عافية عاهة، ولكلِّ معنًى حِيلة، ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفَّة؛ ونوع آخر ما يأخذ أولياء الشَّياطين عنهم، قال: فمن أين عَلِم الشَّياطين السِّحر؟ قال: من حيث عرف الأطباء الطُّب، بعضه تجربة وبعضه علاج. (إلى أن قال): فأقرب أقاويل السِّحر من الصَّواب أنه بمنزلة الطُّب، إنَّ السَّاحر عالج الرَّجل فامتنع من مجامعة النِّساء، فجاء الطَّبيب فعالجه بغير ذلك العلاج، فأبرئ ...إلخ.[2] حيث دلَّت على جواز دفع ضرر السِّحر بالسِّحر، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
الثانية: ما رواه الكُلَيْني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن شيخ من أصحابنا قَالَ: دَخَلَ عِيسَى بْنُ شَفَقِيٍّ عَلى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السَّلام) وَكَانَ سَاحِراً يَأْتِيهِ النَّاسُ، وَيَأْخُذُ عَلى ذلِكَ الْأَجْرَ، فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أَنَا رَجُلٌ كَانَتْ صِنَاعَتِيَ السِّحْرَ، وَكُنْتُ آخُذُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ، وَكَانَ مَعَاشِي، وَقَدْ حَجَجْتُ مِنْهُ، وَمَنَّ اللهُ عَلَيَّ بِلِقَائِكَ، وَقَدْ تُبْتُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَلْ لِي فِي شيء مِنْ ذلِكَ مَخْرَجٌ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام): حُلَّ، وَلَا تَعْقِدْ ...إلخ.[3] وهي وإن كانت دالةً على جواز دفع السِّحْر بالسِّحر، إلَّا أنَّها ضعيفة بالإرسال.
ورواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ شَقَفِيٍّ، وَكَانَ سَاحِراً يَأْتِيهِ النَّاسُ، وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرَ، قَالَ: فَحَجَجْتُ، فَلَقِيتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) بِمِنًى، فَقُلْتُ لَهُ...[4] وهي ضعيفة بالإرسال، وبنفس الرَّاوي، ورواها في قرب الإسناد عن الهيثم بن أبي حروف النَّهدي عن أبيه عن عيسى بن الشَّفَقي[5] وهي ضعيفة بالرَّاوي. وأمَّا الهيثم فهو ممدوح، وكذا أبوه، واسمه عبد الله النَّهدي.