الدرس 24 _ الاجتهاد والتقليد 24
الطائفة الثالثة: وهي الروايات الدالّة بالمنطوق على النهي عن الإفتاء بغير علم، والدالّة بالمفهوم على جواز الإفتاء بالعلم:
منها: صحيحة أبي عبيدة، قال: «قال أبو جعفر (عليه السّلام) من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه».[i]
ومنها: رواية مفضل بن مزيد (يزيد) قال: «قال أبو عبد الله (عليه السّلام): أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدِينَ الله بالباطل وتُفتي الناس بما لا تعلم».[ii] وهي ضعيفة بعدم وثاقة مفضل بن مزيد وكذا مفضّل بن يزيد.
ومنها: حسنة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام): إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدِينَ بما لا تعلم».[iii]
ومنها: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السّلام) عن أبيه، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض».[iv]
ومنها: ما في تحف العقول عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «من أفتى الناس بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».[v] وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: رواية حمزة بن مهران، قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: من استأكل بعلمه افتقر. قلت: إن في شيعتك قوماً يتحملون علومكم ويبثّوها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البرّ والصّلة والإكرام. فقال: ليس أولئك بمستأكلين إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا».[vi] وهي ضعيفة بمحمد بن سنان، وبجملة من الأشخاص مجهولي الحال.
الطائفة الرابعة: هناك جملة من الروايات دالة على جواز الإفتاء بالمنطوق، وتدل بالملازمة على جواز التقلّيد:
منها: ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب: «وقال له أبو جعفر: اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك».[vii] وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: ما في نهج البلاغة، قال (عليه السّلام): «فيما كتب إلى قثم بن عباس: واجلس لهم العصرين فأفت للمستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم».[viii] وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: رواية معاذ بن مسلم النحوّي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس. قلت: نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج أنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: اصنع كذا فإنّي كذا أصنع».[ix] وهي ضعيفة بجهالة حسين (حسن) بن معاذ.
ومنها: رواية عبد السلام بن صالح الهروي، قال: «سمعت الرضا (عليه السّلام) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. قلت: وكيف يحيي أمركم. قال: يتعلم علومنا ويعلّمها الناس ...».[x] وهي ضعيفة بجهالة أكثر من شخص.
وكذا غيرها من الروايات.
لا يقال: إن في جملة من الروايات في الطوائف المتقدمة دالّة على حجّية الرواية لا الفتوى، لأن الإفتاء في الصدر الأوّل كان بنقل الرواية بألفاظها أو بمضمونها. فإنه يقال: إن نقل الرواية منهم في مقام الإفتاء بالواقع للجاهل بالإحكام إنما كان بإعمال الرأي والنظر في حكم المسألة والاجتهاد في استفادته من ظاهر الرواية لا بصِرف نقل الرواية عن الإمام (عليه السّلام) بما هو نقل، كيف وإن مجرّد نقل الرواية لا يكون إفتاء لحكم المسألة ولا يصدق على مثله عنوان الفقيه والعالم الذي يجب على العوام الرجوع إليهم في أخذ الفتوى.
إن قلت: إنه لا توجد ملازمة بين جواز الإفتاء وجواز التقليد تعبّداً، إذ أقصى ما تدل عليه الروايات هو جواز الإفتاء للناس، وهذا لا يستلزم جواز التقليد مطلقاً، ولو لم يحصل العلم من قول المفتي. قلت: إنّ الملازمة العرفية بين جواز الإفتاء وجواز التقليد مطلقاً -ولو لم يحصل العلم من قول المفتي- موجودة، وإنكارها مكابرة.
وأمّا الآيات الشريفة الناهية عن التقليد، كقوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون﴾. وكذا قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾. ففيه، أوّلاً: ان الآيات الشريفة الناهية عن التقليد ظاهرة في النهي عنه في الأمور الاعتقادية أي أصول الدين، ومن المعلوم أن أصول الدين يعتبر فيها العلم والمعرفة والاعتقاد، ولا يصّح فيها التقليد.
وثانياً: لو سلّمنا ان الآيات الشريفة شاملة للتقليد في الأحكام الفرعية إلّا أنها مخصَصة بالروايات المتقدمة الدالة على جواز التقليد، وتخصيص الكتاب العزيز بالسنّة النبويّة الشريفة معروف عند الفقهاء، ولا إشكال فيه. وعليه، فتحمل الآيات الشريفة الناهية عن التقليد على التقليد في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين أو تحمل على تقليد الفسقة من العلماء في الفروع الفقهية.
[i] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صفات القاضي، ح1.
[ii] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صفات القاضي، ح2.
[iii] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صفات القاضي، ح3.
[iv] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صفات القاضي، ح32.
[v] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صفات القاضي، ح33.
[vi] وسائل الشيعة: باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح12.
[vii] رجال النجاشي: ص7.
[viii] نهج البلاغة: ج3، ص127.
[ix] وسائل الشيعة: باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح36.
[x] وسائل الشيعة: باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح11.