الدرس 25 _ الاصول العملية: البراءة 23
وأمّا الوجوب الطريقي، فهو أيضاً غير محتمل هنا، لأنّ الوجوب الطريقي إنّما جعل لأجل تنجيز الواقع، ويكون هو المنشأ لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي في صورة الإصابة، ولولاه لما كان العقاب محتملاً. وعليه، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن الالتزام بأنّ وجوب دفع الضرر المحتمل طريقي، إذ لو كان طريقياً لكان الوجوب في رتبة سابقة على احتمال العقاب، لأنّ الوجوب الطريقي منشأ لاحتمال العقاب، مع أنّ احتمال العقاب مأخوذ في موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل، فلا بدّ من تقدّمه عليه تقدم الموضوع على الحكم، مع أنّه متأخّر عنه رتبة، كما عرفت، وبذلك يبطل القول بالوجوب الطريقي.
وعليه، فإذا انتفى الوجوب النفسي والغيري والطريقي، فيتعيّن أن يكون وجوب دفع الضرر الأخروي ارشادياً محضاً، وليس فيه شائبة المولويّة، ولا يمكن أن يستتبع حكماً شرعياً، لأنّ حكم العقل في ذلك إنّما يكون واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، فلا يكون مورداً لقاعدة الملازمة، ولكن ذلك فرع احتمال العقاب، ومع عدم وصول التكليف لا بنفسه ولا بطريقه لا يحتمل العقاب ليجب دفعه، فينتفي أيضاً الوجوب الارشادي، ولذلك يكون حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارداً على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.
وعليه، فتختصّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بموردين:
أحدهما: الحكم الواقعي الواصل إلى المكلّف المنجّز في حقّه، كما في العلم الاجمالي بالنسبة إلى كلّ واحد من الأطراف.
ثانيهما: الحكم الواقعي الذي هو في معرض الوصول، كالشبهة البدوية قبل الفحص، فإنّ احتمال العقاب في هذه الصورة قائم، وأمّا بعد الفحص، فحيث إنّه لم يصل حكم المولى وخطابه بأي نحو من أنحاء الوصول، فلا حكم للعقل بمجرّد احتمال وجود الملاك اللازم الاستيفاء بوجوب الامتثال.
وبالجملة، فالشبهة البدوية بعد الفحص لا يحتمل فيها العقاب، لأنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب.
وبذلك ظهر أنّ مورد كلّ من القاعدتين يغاير مورد الآخر، ولا تنافي بينهما، لعدم اجتماعهما في مورد واحد أصلاً. هذا كلّه بناءً على كون المراد من الضرر هو الضرر الأخروي.
وأمّا لو كان المراد من الضرر هو الضرر الدنيوي، فيرد عليه:
أوّلاً: أنّ ارتكاب الشبهة التحريمية وإن كان يلزم منها احتمال المفسدة، إلا أنّه لا يلازم احتمال المضرّة، بل ربما يكون في ارتكاب الحرام المعلوم منفعة دنيوية فضلاً عن ارتكاب المشتبه، فإنّ غصب مال الغير وإن كان حراماً وفيه مفسدة، إلاّ أنّ فيه منفعة للإنسان. نعم، قد يكون ارتكاب الحرام فيه مضرّة، كشرب السمّ الذي فيه ضرر على البدن، ولكن لا ملازمة دائماً بين ارتكاب الحرام ولزوم الضرر الدنيوي. وبالجملة، فإنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية التي هي العلل للأحكام الشرعية، وهي التي توجب حسن الفعل أو قبحه، وليست تابعة للمنافع والمضار الدنيوية. نعم، قد يكون في بعض الضرر الدنيوي مفسدة يدركها العقل، فيستقلّ بقبح الإقدام على الفعل، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة، فإنّ الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام، وكلّما كان الحكم العقلي واقعاً في هذه السلسلة يكون مورداً للملازمة، فسيتتبعه الحكم الشرعي.
وثانياً: أنّه لا دليل على وجوب دفع الضرر مطلقاً، بل لا قبح عقلاً في تحمّل بعض المضار الدنيوية لبعض الدواعي العقلائية، فإنّ العقلاء مع علمهم بالضرر يصرفون الأموال، ويتحمّلون المشاق، لأجل تحصيل العلم، أو كسب المال بالتجارة، مع أنّ الغاية ليست معلومة الحصول لهم، كما أنّه يجوز شرعاً تحمّل الضرر الدنيوي، كما في بذل المال لشراء الماء للطهارة، كما هو مورد النص وغير ذلك من الموارد.
وأمّا إن كان المراد بالضرر المفسدة التي هي مناط للحكم بالحرمة، فاحتمال الحرمة في شيء وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة فيه، إلاّ أنّ التحرّز عن احتمال المفسدة ليس ممّا يستقلّ العقل بلزومه، بل إن أدرك العقل المفسدة التامّة في شيء، وأحاط بجميع الجهات ولم يرَ مزاحماً لها، حكم بقبح الإلقاء في المفسدة.
وأمّا مجرّد احتمال المفسدة مع احتمال وجود المزاحم لها، فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة.
ويشهد لذلك، أنّ جميع العلماء الأصوليين والإخباريين وفي جميع الأعصار والأمصار أجمعوا على عدم لزوم الاجتناب عمّا يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعية، ولو كان العقل مستقلاً بوجوب دفع المفسدة المحتملة لكان الاحتياط واجباً لها أيضاً، إذ لا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية من هذه الجهة. نعم، قد تكون المفسدة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرّز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالاً، إلا أنّه لو كانت بهذه المثابة، فعلى الشارع أن يوجب الاحتياط فيها، ومع الشكّ في إيجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة، لأنّه كأحد التكاليف المجهولة، فيعمّه حديث الرفع.
والخلاصة إلى هنا: إنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف، بل لا تعارضها أيضاً. والله العالم.
[الاستدلال بالاستصحاب]
من جملة الأدلّة التي استدلّ بها على البراءة الاستصحاب، أي استصحاب عدم التكليف.
توضيحه: إنّ المراد من العدم، إمّا أن يكون هو العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على البلوغ، أي المستصحب هو العدم في حال الصغر السابق على البلوغ، وهو الذي يعبّر عنه باستصحاب البراءة الأصلية.
فإن كان المستصحب هو عدم التكليف بالعدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام، وهو ما يسمّى بالعدم المحمولي. فيرد عليه: أنّ العدم المشكوك فيه هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع، وهو ليس له حالة سابقة حتّى يستصحب، والعدم المحمولي وإن كان متيقناً، إلاّ أنّ استصحاب العدم الأزلي -أي العدم المحمولي بناءً على جريانه لإثبات العدم النعتي- يكون من الأصل المثبت وهو غير حجّة. وهذا الإشكال وارد.
وقد يشكل عليه أيضاً: بأنّ الآثار الشرعية، بل العقلية من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك من الآثار إنّما تترتب وجوداً وعدماً على المجعول لا على نفس الجعل، والمجعول هو الحكم الشرعي المتعلّق بفعل المكلف، ولا أثر لنفس الجعل بما هو جعل. وعليه، فإثبات عدم وجود المجعول التي تترتب عليه الآثار باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.