الدرس 103 _اصناف المستحقين للزكاة 4
وفيه: أنَّ هذه الرِّواية، وإن كانت ضعيفةً جدّاً، إلاَّ أنَّ مضمونها مرويّ في نصوصنا، كما ذكر صاحب الجواهر وغيره من الأعلام، فلا يضرّ حينئذٍ ضعف السَّند.
ولكن الذي يرد على هذه الرِّواية: أنَّها لم تتعرَّض لتفسير مفهوم الغنى والفقر.
غاية ما هنالك أنَّها دلَّت على جواز أخذ الزَّكاة من الأغنياء، إلاَّ أنَّ هذا لا يُنافي الأخذ من الفقراء؛ إذ قد يكون المكلف مالكاً للنِّصاب مشغول الذِّمّة بثمنه أو أضعاف أضعافه من الدَّين، مع كونه بالفعل محتاجاً إلى نفقة أكثر من قيمة النِّصاب، فتجب عليه الزَّكاة مع كونه بالفعل محتاجاً إلى مسكن ولباس وطعام، ولا يفي بحاجته الفعليَّة أضعاف قيمة ذلك النِّصاب، فهو فقير مدقع، ومع ذلك تجب عليه الزَّكاة لكونه مالكاً لأحد النّصب الزَّكويّة، وقد عرفت سابقاً أنَّ الدَّين لا يمنع من وجوب الزَّكاة، والاقتصار في الرِّواية على الأغنياء؛ لكونهم الواجب عليهم غالباً، فالرِّواية جارية مجرى الغالب.
أضف إلى ذلك: أنَّ ظاهر الرِّواية أنَّ المعيار هو مالكية عين النِّصاب لا مقدار ماليَّته.
ويلزم على ذلك: أنَّ مَنْ يملك خمسة أوسق من الحنطة لا تفي بقوت عشرة أيام من سنته يكون غنيّاً لا يجوز إعطاؤه من الزَّكاة، ومَنْ يملك الآلاف من الدُّور والعقارات لا يكون غنيّاً ويكون فقيراً؛ لأنَّه لا يملك أحد النّصب الزَّكويّة، وهذا لا يمكن القبول به.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل ليس تامّاً.
الأمر الثَّاني: الذي استُدلّ به لهذا القول هو أنَّ مالك النِّصاب يجب عليه دفع الزَّكاة، فلا يحل له أخذها للتَّنافي بينهما.
وفيه: أنَّنا نمنع التَّنافي؛ إذِ الزَّكاة على الفقير كالدَّيْن، فكما أنَّ الدَّين لا يمنع من وجوب الزَّكاة، كذلك الفقر لا يمنع من أداء الزَّكاة، والعامل تدفع له الزَّكاة، وقد تجب عليه، وكذا غيره.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ هذا القول الثَّاني المنسوب للشَّيخ (رحمه الله) ليس تامّاً، والله العالم.
ثمَّ إنَّه بقي شيء لا بدَّ من التَّنبيه عليه، وهو أنَّه لا إشكال في جواز أخذ الزَّكاة إذا لم يكن رأس المال مع الربح كافياً لمؤونة السَّنة، وإنَّما الكلام فيما لو كان رأس المال وحده كافياً لمؤونة السَّنة، ولكن ربحه لا يكفي، فهل يجوز له أخذ الزكاة أم لا؟
المشهور بين الأعلام هو الجواز، وقد يستدلّ له بجملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة معاوية بن وهب «قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عنِ الرَّجل يكون له ثلاثمائة درهم، أو أربعمائة درهم، وله عيال، وهو يحترف، فلا يُصيب نفقته فيها، أيكبّ فيأكلها ولا يأخذ الزَّكاة، أو يأخذ الزَّكاة؟ قال: لا، بل ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه ومَنْ وسعه ذلك من عياله ويأخذ البقيَّة من الزَّكاة، ويتصرَّف بهذه لا ينفقها»([1])، وهي مطلقة من حيث كون رأس المال وهو الثَّلاثمائة أو الأربعمائة درهماً وافياً بمؤونة السَّنة أم لا.
وعليه، فالحكم بجواز الأخذ يشمل الصُّورتَيْن.
اللَّهمّ إلاَّ أن يُقال: إنَّ الثَّلاثمائة درهم أو الأربعمائة لا تكفي في حدِّ نفسها لمؤونة السَّنة له ولعياله، فتكون قاصرة الشُّمول لما نحن فيه.
ومنها: معتبرة هارون بن حمزة «قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): يروى عن النَّبيّ (ص) أنّه قال: لا تحلُّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي، فقال: لا تصلح لغنيّ، قال فقلتُ له: الرَّجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعة وله عيال، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها، قال: فَلْينظر ما يستفضل منها فليأكله هو ومَنْ يسعه ذلك، وَلْيأخذ لِمَنْ لم يسعه من عياله»([2]).
والرِّواية معتبرة، فإنَّ ابن الزُّبير القُرشيّ الواقع في إسناد الشَّيخ (رحمه الله) إلى ابن فضَّال هو من المعاريف، كما أنَّ يزيد بن إسحاق بن شَعِر ممدوح جدّاً، ودلالتها مثل دلالة الرِّواية الأُولى، أي صحيحة معاوية بن وهب.
ومنها: موثقة سماعة «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عنِ الزَّكاة، هل تَصْلُح لصاحبِ الدَّارِ والخادم؟ فَقَاْل: نعم، إلاَّ أن تكون داره دار غلَّة، فخرج له من غلَّتها دراهم ما يكفيه لنفسه وعياله، فإن لم تكن الغلَّة تكفيه لنفسِه وعيالِه في طَعَامهم وكِسْوتهم وحاجتهم من غيرِ إسرافٍ، فقد حلَّت له الزَّكاة، فإن كانت غلَّتها تكفيهم فلا»([3])، وهي مطلقة، فإنَّ مقتضى إطلاقها جواز أخذ الزَّكاة لصاحب الدَّار التي لا تفي غلّتها بالمؤونة، وإن كانت وحدها كافيةً فيها والمراد من دار الغلَّة هي الدَّار التي يُؤجِّرها، مقابل دار السَّكن لنفسه وعياله .
نعم، قد يُقال: إنَّ هذه الموثَّقة، وإن كانت مختصَّةً بدار الغلَّة، إلاَّ أنَّه يمكن التعدِّي منها إلى كلِّ ثابتٍ من ضيعة أو عقار أو دكان أو نحوها.
وأمَّا التعدِّي منها إلى رأس المال الذي يتَّجر به، فيحتاج إلى عدم القول بالفصل.
والإنصاف: أنَّ عدم القول بالفصل ثابتٌ، فتشمل حينئذٍ رأس المال.
([1]) الوسائل باب 12 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح1.
([2]) الوسائل باب 12 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح4.
([3]) الوسائل باب 9 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.