الدرس 65 _زكاة الغلات الأربعة 3
ومنها: صحيحة سعد بن سعد الأشعريّ «قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أقلَّ ما تجب فيه الزَّكاة من البُرِّ والشَّعير والتَّمر والزَّبيب؟ فقال: خمسة أَوْسَاقٍ بوسق النَّبيّ (ص)، فقلتُ: كم الوَسْق؟ قال: ستّون صاعاً، قلتُ: وهل على العنب زكاةٌ أو إنَّما يجب عليه إذا صيَّره زبيباً؟ قال: نعم، إذا خرصه أخرج زكاته»([1])، وهذه الصَّحيحة ظاهرةٌ في تعلُّق الوجوب بالعنب، كما أنَّها ظاهرة في ثبوت الوجوب من حين الخرص.
وقد ذكر الأعلام بأنَّ زمان الخرص من حين بدوِّ الصَّلاح، وفائدته هو تقدير ثمر النخل إن صار تمراً والعنب إن صار زبيباً، فإن بلغت الأوساق وجبت الزَّكاة، ثمَّ يخيِّرهم بين تركه أمانةً في أيديهم وبين تضمينهم حصَّة الفقراء أو ضمان حصتهم.
وأمَّا احتمال أن يكون قوله (عليه السلام): «نعم...»، أي لا يجب عليه إلاَّ إذا صيرَّه زبيباً، فهو احتمالٌ بعيدٌ، كما أنَّ احتمال أن يكون قوله (عليه السلام): «إذا خرصه...» بالحاء المهملة لا الخاء المعجمة من حرص المرعى إذا لم يترك منها شيئاً، ويكون ذلك كناية عن صرمه زبيباً، فهو بعيد أيضاً.
والإنصاف: أنَّه ليس المراد من الخرص هنا الخرص المعهود الذي وقته من حين بدوِّ الصَّلاح، بل المقصود بالخرص هنا بيان ثبوت الزَّكاة في العنب أيضاً وعدم اشتراط صيرورته زبيباً، فإذا خرصه أي علم ببلوغ يابسه خمسة أَوْسَاقٍ بالخرص والتَّخمين وجب إخراج الزَّكاة منه.
وعليه، فلا تدلُّ هذه الصَّحيحة إلاَّ على ثبوت الزَّكاة في العنب.
وأمَّا القول: بأنَّه لا قائل بالفصل بينه وبين الحصرم والرُّطب.
ففيه: ما عرفته من وجود القائل بالفصل.
والخلاصة: أنَّ هذه الصَّحيحة لا تدلُّ إلاَّ على وجوب الزَّكاة في العنب دون الحصرم والرُّطب، ولا مانع من الالتزام بذلك.
ومنها: صحيحة سعد بن سعد الأشعريّ الأخرى عن أبي الحسن الرِّضا (عليه السلام) في حديث «قال: سألته عنِ الزَّكاة في الحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب، متى تجب على صاحبها؟ قال: إذا ما صرم وإذا خرص»([2]).
وجه الاستدلال بها: هو أنَّها ظاهرة في ثبوت الزَّكاة من حين الخرص.
وقد أشكل: بأنَّه يحتمل أن يكون الخرص الوارد فيها بالحاء المهملة، من حرص المرعى. إذا لم يترك فيه شيئاً، بل لعلّ هذا هو المتعيّن؛ إذ لا معنى لجعل الوقت الصَّرام والخرص بالمعجمة؛ لاختلافهما جدّاً.
ومن هنا قيل على تقدير كونه بالمعجمة : يراد منه وقت الصّرام أيضاً.
وعليه، فتكون هذه الصَّحيحة عليهم لا لهم، أيّ أنَّها من أدلَّة القول الأوَّل.
ومنها: أنَّه لو كانت الزَّكاة مقصورةً على التَّمر والزَّبيب لأدَّى ذلك إلى ضياع الزَّكاة؛ لأنَّهم كانوا يحتالون بجعل العنب والرُّطب دبساً وخلاًّ، وكانوا يبيعونها كذلك.
وفيه أوَّلاً: أنَّ هذه الحيل مهما كثرت لا تقوى على إفناء التَّمر، بل يبقى الكثير.
وثانياً: أنَّ في جعلهما كذلك تضييعاً لهما وإنقاصاً لماليتهما، والمقدار الواجب في الزَّكاة أقلّ ضرراً ماليّاً ممَّا ذكر، فالفرار من الزَّكاة إلى ذلك فرار من الأخف إلى الأشدّ، ومن الأقلّ ضرراً إلى الأكثر.
وثالثاً: أنَّ الفرار من الزكاة بالحِيَل الشرعيَّة موجود ولا إشكال فيه.
أُنظر إلى صحيحة عمر بن يزيد المتقدِّمة «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل فرَّ بماله مِنَ الزَّكاة، فاشترى به أرضاً أو داراً، أعليه فيه شيءٌ؟ فقال: لا، ولو جعله حِليّاً أو نقراً فلا شيء عليه، وما منع نفسه من فضله أكثر ممَّا منع من حقِّ الله الذي يكون فيه»([3])، وكذا غيرها من الرِّوايات.
بل الحِيَل الشرعيَّة في الأبواب الفقهيَّة كثيرة ومتنوّعة ولا محذور فيها، بل يقول الإمام (عليه السلام) في بعض الرِّوايات: «أنَّه فرارٌ من باطل إلى حقٍّ»، كما في حسنة عبد الرَّحمان بن الحجَّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: كان محمَّد بن المنكدر يقول لأبي (عليه السلام): يا أبا جعفر رحمك الله والله إنَّا لنعلم أنَّك لو أخذت ديناراً والصَّرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما هذا إلاَّ فرار، فكان أبي يقول: صدقت والله ولكنَّه فرار من باطل إلى حقٍّ»([4]).
أشار بقوله (عليه السلام): «لكنه الفرار» إلى ما كانوا يصنعونه من شراء ألف درهم ودينار بألفي درهم، وكذا غيرها من الرِّوايات.
ومنها وهو أهمّ دليل للمشهور : ما ورد في جملة من الرِّوايات من أنَّ رسول الله (ص) كان يبعث من يخرص على أصحاب النَّخل ثمرتها ليتميز بذلك مقدار الصَّدقة المفروضة فيها، وكان (ص) يأمر عامله بأن يترك للحارس العذق والعذقَيْن، فلو لم يكن حقُّ الفقير متعلقاً بها من حين بدوّ الصَّلاح الذي هو وقت الخرص لم يكن يترتّب على الخرص قبل صيرورتها تمراً فائدة يعتدّ بها، بل كان تعديّاً وتضييعاً على المالك بدون دليل شرعيّ؛ إذ قد لا يحب أن يطّلع أحد على مقدار ماله، وما صدر عنه من المصارف قبل جفافه، كما أنَّه قد يحب أن يجعل للحارس أكثر من عذقَيْن، أو ينفق جميعها على أهله وعياله وأصدقائه حال كونها رطبا دون أن يطلع عليه أحد، فلو لم يكن المقصود بالخرص تمييز حقّ الفقير وتضمين المالك به على تقدير صدور مثل هذه التصرُّفات منه الذي هو فرع ثبوت الحقّ له، لوقع الخرص لغواً.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح1.
([2]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الغلاّت ح1.
([3]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح1.
([4]) الوسائل باب 6 من أبواب الصَّرف ح2.