الدرس 1227 _كتاب الصوم 27
الأمر الثَّالث: قد عرفت أنَّه يجب نيَّة التَّعيين في صوم الكفَّارة، وصوم القضاء، والنَّذر المُطلق، ونحوها.
واستثنى المُصنِّف (رحمه الله) في البيان: النَّدب المُتعيّن، كأيّام البيض، فألحقه بالصوم المُعيَّن في عدم افتقاره إلى التعيين، بل حكى عنه الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في الرَّوضة: أنَّه ألحق به في بعض تحقيقاته مُطلق المندوب؛ لتعيُّنه شرعاً في جميع الأيّام إلاَّ ما استُثني، فيكفي فيه نيَّة القُربة. واستحسنه هو، وتبعه في الذَّخيرة.
وفي المدارك بعد نقل ذلك عن الشَّهيدَيْن (رحمهما الله) قال: «ولا بأس به، خُصوصاً مع براءة ذمَّة المُكلَّف من الصَّوم الواجب»[1].
ولكنَّ مقتضى الإنصاف في المندوب المُعيَّن كأيّام البيض ونحوها: هو وجوب نيَّة التَّعيين؛ لأنَّ ظاهر الأدلَّة هو أَخْذ الزَّمان الخاصّ قيداً في موضوع الأمر.
وعليه، فيتوقَّف امتثال الأمر على قصده، وإلاَّ فلا يكون المكلَّف آتياً بالمأمور به على وجهه.
أضف إلى ذلك: أنَّ صوم الزَّمان المُعيَّن، كما يصلح أن يكون امتثالاً للأمر بالمُعيَّن، يصلح أن يكون امتثالاً للأمر بالمُطلق، فكونه امتثالاً للأوَّل بعينه يحتاج إلى مُعيِّن، وليس إلاَّ القصد، ومُجرَّد تعيُّنه غير كافٍ فيه، ولاسيَّما مع صلاحيَّة الزَّمان لغيره.
وأمَّا المندوب المُطلق، فهو كالواجب غير المُعيَّن. وقد عرفت أنَّه لابُدّ من نيَّة التَّعيين فيه.
وعليه، فيكفي في نيَّة التَّعيين في المندوب المُطلق القصد إلى صرف الطَّبيعة المُطلقة فيه؛ لأنَّ ما عداه طبيعة خاصَّة.
الأمر الرَّابع: في صوم شهر رمضان المُبارك.
والمعروف بين الأعلام أنَّه لا يُشترط فيه نيَّة التَّعيين، وأنَّه يكفي أن ينوي أن يصوم غداً مُتقرِّباً إلى الله تعالى، من غير حاجةٍ إلى التّعرُّض لكونه من رمضان والَّذي هو عبارة عن نيَّة التَّعيين ؛ لعدم صحَّة غيره فيه، فتعيُّنه مُجزٍ عن تعيينه.
قال في الجواهر: «ولم أعرف خلافاً في ذلك، بل عن الغُنية والتَّنقيح الإجماع عليه...»[2].
أقول: أمَّا الإجماع المُستدلّ به على عدم اعتبار نيَّة التَّعيين، فهو يصلح للتَّأييد فقط.
نعم، يمكن الاستدلال لذلك: بأنَّه لا يُوجد ما يدلُّ على اعتبار ذلك في صوم شهر رمضان المبارك، ومع الشَّكّ في اعتبار نيَّة التَّعيين، فإنَّ أصل البراءة يدفعه.
أضف إلى ذلك: أنَّ صوم رمضان لا يُشاركه غيره في زمانه.
وعليه، فلا يحتاج إلى فصلٍ آخر يُميّزه عن سائر أنواع الصَّوم وراء إضافته إلى زمانه.
فالزَّمان بالنِّسبة إلى سائر أنحاء الصَّوم ظرفٌ لتحقُّقها، وبالنِّسبة إلى صوم رمضان هو مُقوّمٌ لمفهومه، فإنَّه يُميِّزه عمَّا عداه. فإذا نوى صوم الغد، وكان الغد من رمضان، فقد عزم على إيجاد المأمور به بعينه بداعي القُربة والإطاعة، وجهلُه بكون الغد من رمضان، أو بخصوصيّة أمره غيرُ قادحٍ؛ إذِ العبرة بنفس ذلك الزَّمان الَّذي وجب صومه بعينه، لا بمعرفة عنوانه.
كما أنَّ العِبرة بصحَّته ووقوعه عبادةً حُصوله بداعي التّقرُّب وإطاعة أمره الواقعيّ، وإن لم يعرفه تفصيلاً أو أخطأ في تشخيصه، فلا مانع من صحَّة صومه في الفرض بعد فرض كونه عين الماهية المأمور بها، وقد أتى به بداعي التّقرُّب.
والخُلاصة: أنَّ المرجع عند الشَّكّ في اعتبار شيءٍ في صحَّة العبادة هو البراءة.
قال المُصنِّف (رحمه الله) في البيان: «لو أضاف التَّعيين إلى القُربة والوجوب في شهر رمضان فقد زاده خيراً، والأقرب: استحبابه. أمَّا التّعرُّض لرمضان هذه السَّنة فلا يُستحبّ، ولا يضرّ. ولو تعرَّض لرمضان سنة مُعيّنة في غيرها، فإن كان غلطاً لغا، وإن تعمَّد فالوجه: البطلان»[3].
وما ذكره (رحمه الله) جيِّد، إلاَّ قوله أخيراً: «وإنْ تعمَّد فالوجه: البطلان». وسيأتي بيانه بالتَّفصيل عند تعرُّضه (رحمه الله) له قريباً، والله العالم.
* * *
ولا يجب تجديدها بعد الأكل أو النَّوم أو الجنابة، على الأقوى، سواء عرضت ليلاً أو نهاراً بالاحتلام (1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه لا تبطل النِّيّة بفعل ما يُنافي الصَّوم بعدها قبل طُلُوع الفجر، سواء في ذلك الجُماع وغيره، بل اتَّفق الكُلّ على ذلك قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار.
نعم، تردَّد المُصنِّف (رحمه الله) في البيان في خُصوص الجُماع وما يوجب الغُسْل بعد الجزم بعدم بُطلانها بالتَّناول، قال (رحمه الله): «وفي الجُماع وما يُوجب الغُسل تردُّدٌ، من أنَّه مُؤثِّر في صيرورة المُكلَّف غير قابلٍ للصَّوم، فيُزيل حُكم النِّيّة، ومن حُصول شرائط الصِّحّة وزوال المانع بالغُسل»[4].
ولا يخفى عليك: ضُعف الوجه الأوَّل من وجهَي التَّرديد، قال صاحب المدارك (رحمه الله): «فإنَّه مجرَّد دعوى خالية من الدَّليل»[5].
وفي الجواهر بعد نقله لعبارة المدارك : «قلتُ: بل الدَّليل على خلافها؛ ضرورة أنَّ الصَّوم المنويّ من طُلُوع الفجر، فلا مدخليّة لأجزاء اللَّيل الَّتي يقع فيها المُفطِّر...»[6].
ولقد أجاد صاحب الجواهر (رحمه الله)؛ إذ الأدلَّة دلَّت على المنع من تناول المُفطِّرات بعد الفجر، فقبل الفجر هو مرخَّصٌ في الأكل والشُّرب والجُماع وغيرها، فما فعله في اللَّيل من هذه الأُمور لا يُؤثِّر في النِّيّة، ولا في المنويّ؛ لأنَّ الإمساك المأمور به إنَّما هو من طُلُوع الفجر، لا من اللَّيل، والله العالم.
* * *