الدرس 1149 _كتاب الخمس 29
والإنصاف: هو ما ذهب إليه المشهور من أنَّ مصرفه هو مصرف سائر أقسام الخُمُس؛ وذلك لأنَّ إطلاق الخُمُس في الرِّوايات المتقدِّمة ظاهرٌ في الخُمُس المعهود؛ لما عرفت من أنَّ الخُمُس أصبح حقيقةً متشرعيّةً في زمن الصَّادقين (عليهما السلام) في المعنى المعهود، فتُحمَل عليه الرِّوايات المتضمّنة للفظ (الخُمُس)، كما تُحمَل عليه الفتاوى.
ولو كانت رواية عمَّار بن مروان المتقدِّمة معتبرةً لكانت دليلاً واضحاً على كون المراد بالخُمُس هو المعنى المعهود؛ إذ هي ظاهرة جدّاً في ذلك.
وأمَّا الأمر بالتّصدُّق في معتبرة السَّكونيّ المتقدِّمة، فقد شرحنا
حاله في الجهة الأُولى، وحملنا الصَّدقة على المعنى اللُّغويّ العامّ الشَّامل للخُمُس المعهود.
أضف إلى ذلك: أنَّ الموجود في نسخة الفقيه: (أخرج خمس مالك) بدل: (تصدَّق بخُمُس مالك).
هذا، وقد أطنب المحقِّق الهمدانيّ (رحمه اﷲ) في بيان أنَّ المكلف مخيَّرٌ بين أن يصرفه على الفقراء، وبين أن يجعل مصرفه هو الخُمُس المعهود.
وذكر ما حاصله: أنَّه لا تنافي بين روايات الخُمُس وبين ما ورد في جملة من الرِّوايات من الأمر بالتّصدُّق في ما لا يعرف صاحبه؛ لأنَّ مفاد تلك الرِّوايات ليس إلاَّ جواز التّصدُّق بعين المال الَّذي لا يعرف صاحبه أو بثمنه، وهذا شيء لا تنافيه روايات الخُمُس، فإنَّ مفاد روايات الخُمُس ليس إلاَّ أنَّ صرف خُمُس مجموع ذلك المال المختلط بالحرام إلى أرباب الخُمُس كتمييز عين الحرام، وإيصاله إلى صاحبه، مبرئ للذِّمّة، وموجب لحلّيّة الباقي، ولا منافاة بينهما؛ إذ ليس الأمر بالخُمُس أو الصَّدقة في مثل المقام ظاهراً في الوجوب التّعيينيّ، كي يكون وجوب كلٍّ منهما منافياً للآخر، بل هو مسوق لبيان ما به تتحقّق براءة الذِّمّة من مال غيره، ويُباح له التّصرُّف في ما عداه، فالأمر بإخراج خُمُس ذلك المال هو بمنزلة ما لو قال: لو أخرجتَ خُمُس ذلك المال يحلّ لك الباقي، لا أنَّه يجب عليك تعييناً إخراج خُمُسه تعبُّداً.
وفيه: ما لا يخفى، فإنَّ ظاهر الأمر بدفع الخُمُس هو التعيين، وحمله على التَّخيير يحتاج إلى قرينة.
وقد عرفت حال الأمر بالتّصدُق في معتبرة السَّكونيّ، فلا حاجة للإعادة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من كون مصرف هذا الخُمُس هو مصرف الخُمُس في سائر الأقسام هو الصَّحيح.
نعم، الأحوط: صرفه في فقراء بني هاشم، حتَّى لو قلنا: بانحصار مصرفه في الصَّدقة؛ لما عرفت من عدم حرمة هذه الصَّدقة عليهم، وإنَّما المحرَّم عليهم الصَّدقة الواجبة من زكاة المال والفطرة، وقد تقدَّم تفصيل ذلك، واﷲ العالم.
* * *
قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: ولو علم صاحبه صالحه.
الثَّانية: أن يكون قدر الحرام مجهولاً، وصاحبه معلوماً.
الصُّورة الثَّانية: أن يكون قدر الحرام مجهولاً، وصاحبه معلوماً، فإن تراضيا بالصُّلح فبه، ولا إشكال حينئذٍ في حِلّيّة المال به من دون حاجة إلى إخراج خُمُسه؛ لاختصاص رواية الخُمُس بصورة الجهل بالمالك وبمقدار الحرام.
ولكن يظهر من جملة من الأعلام أنَّه يجب الصُّلح، قال في الجواهر: (أمَّا لو عُلِم الصَّاحب، وجُهِل قدر المال إجمالاً وتفصيلاً، وجب الصُّلح، كما صرَّح به جماعة، وكأنَّ مرادهم ولو إجباراً...)([1])، وحُكِي عن كاشف الغطاء (رحمه اﷲ) أنَّه قال: (لو عرف المالك دون المقدار وجب صلح الإجبار...)([2]).
وفيه: أنَّه لا دليل على وجوب الصُّلح، فضلاً عن الإجبار، بل إن رضيا بالصَّلح فبه، وإلاَّ فهل يُقتصر على القدر المتيقَّن؛ اقتصاراً في رفع اليد عمَّا يقتضيه ظاهر يده على ما عُلِم خلافه، ولأصالة براءة الذِّمّة عن التَّكليف بدفع أزيد ممَّا علم التَّكليف به، أو يُدفع ما يتيقَّن معه البراءة؛ تحصيلاً للجزم بالخروج عن عُهدة ما عُلم تنجُّز التَّكليف به على سبيل الإجمال، أو يُدفع الخُمُس؟ كما عن العلاَّمة (رحمه اﷲ) في التَّذكرة، حيث استدلّ لذلك بما في رواية الحسن بن زياد المتقدِّمة من قوله (عليه السلام): (فإنَّ اﷲ (عز وجل) قد رضي من ذلك المال بالخُمُس)([3]).
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بجهالة الحكم بن بهلول.
وثانياً: أنَّها مقيَّدةٌ بصورة الجهل بالمالك، كما لا يخفى.
والإنصاف: أن يُقال: إنَّه تارةً: يُفرض المال تحت يده. وأخرى: يُفرَض خارجاً عن يده.
فإن كان المال تحت يده، فالمعروف بينهم هو جواز الاقتصار على الأقلّ؛ لأنَّ اليد أمارةٌ على ملكيّة الجميع، فيُقتصر في الخروج عنها على المقدار المتيقّن، فإنَّ قاعدة اليد، وإن كانت لا تجري بالنِّسبة إلى كلِّ واحدٍ من الأفراد للتَّعارض؛ لكون كلِّ فردٍ طرفاً للعلم الإجماليّ، فتسقط لأجل التَّعارض، كما لو كان تحت يد زيدٍ من الأموال خمسون درهماً، ويعلم أنَّ فيها بعض الدَّراهم مغصوبة، ويدور أمر المغصوب بين خمسة دراهم أو عشرة، فقاعدة اليد لا تجري بالنِّسبة إلى
كلِّ درهمٍ بخصوصه، لسقوطها بالمعارضة؛ للعلم الإجماليّ بوجود الحرام تحت اليد، إلاَّ أنَّها تجري بالنِّسبة إلى الكُلِّيّ الزَّائد على المقدار المعلوم.
ففي المثال المتقدِّم هناك خمسة دراهم من الحرام جزماً، إلاَّ أنّنا نشكّ في وجود الحرام في الباقي، وهو الخمسة والأربعون، ومقتضى قاعدة اليد ثبوت الملكيّة لصاحب اليد.
والخلاصة: أنَّه يُكتفى بدفع الأقلّ، وهو الخمسة دراهم في المثال المتقدِّم، ويكون الباقي ملكاً لصاحب اليد.
([1]) الجواهر: ج16، ص74، 75.
([2]) حكاه عنه في مصباح الفقيه: ج3، ص140.
([3]) الوسائل باب 10 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس ح1.