الدرس 109 _ شرائط الإحتياط 3
[خاتمة في شرائط الأصول العلمية: شرائط الاحتياط]
إذا عرفت ذلك، فقد ذهب الميرزا النائيني (رحمه الله) إلى عدم جواز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلاّ بعد تعذّر المرتبة السابقة. وحاصل ما ذكره: إنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم القدرة على الطاعة التفصيلية، لأنّ حقيقة الطاعة هو أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه، وتحرّكه عن تحريكه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثاً، فلا يكاد يتحقق حقيقة الطاعة والامتثال، إلاّ بعد العلم بتعلّق البعث نحو العمل، ليكون الانبعاث عن البعث.
نعم، الانبعاث عن البعث المحتمل أيضاً مرتبة من العبودية ونحواً من الطاعة والامتثال، إلا أنّه يتوقّف حسن ذلك على عدم التمكّن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة. فمع التمكّن من الامتثال التفصيلي لا يحسن من العبد الامتثال الاحتمالي.
والمفروض أنّ الامتثال في جميع موارد الاحتياط لا يكون إلا احتمالياً، حتى في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، لعدم العلم بتعلّق البعث في كلّ طرف من أطرافه، وإن كان يعلم بتعلّق البعث في أحد الأطراف على سبيل الاجمال.
وعليه، فيتوقّف الاحتياط مطلقاً على عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة.
ثمّ قال: «وعلى فرض التشكيك في ذلك وانتهاء الأمر إلى الأصول العملية، فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة، لأنّ الأمر يدور بين التخيير والتعيين، إذ يحتمل أن يكون الامتثال التفصيلي مع التمكّن منه هو المتعيّن على المكلّف، ولا يكون مخيراً بينه وبين الامتثال الاحتمالي، وليس الترديد في المقام بين الأقلّ والأكثر، كما في الشكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز، إذ لا جامع بين الامتثال التفصيلي والاحتمالي حتى يندرج بذلك في الأقلّ والأكثر.
وقد تقدم في مبحث البراءة أنّه مهما دار الأمر بين التخيير والتعيين، فالأصل يقتضي التعيينية»، هذا حاصل ما ذكره (رحمه الله).
ويرد عليه: أنّه لا دليل على اعتباره خصوص الانبعاث عن الأمر الجزمي التفصيلي في تحقّق العبادة وصدق الإطاعة الحقيقة، بل هو مصادرة محضة، ولذا ذكرنا في أكثر من مناسبة، أنّ المعتبر في تحقق العبادة والطاعة عقلاً إنّما هو مطلق الانبعاث عن أمر المولى، سواء كان على نحو الجزم أو الاحتمال، ففي الأخير أيضاً يتحقّق حقيقة القرب والطاعة، لأنّ مرجعه إلى جعل أمره المحتمل داعياً له حقيقة لأن يتحرّك عن قباله.
ويشهد لذلك، سيرة العرف والعقلاء في مقام الطاعة العبودية.
ومن هنا، قلنا سابقاً: إنّ العبادة الرجائية من أرقى أنواع العبادات، لأنّ في الأمر الجزمي يمكن أن يأتي المكلّف بالعبادة خوفاً من العقاب أو طلباً للثواب، أمّا في العبادة الرجائية، فيأتي بها احتمالاً لأمر المولى لا لخوفه من عدم الاتيان، إذ لا عقاب في صورة احتمال الأمر، فلا تكون عبادته عبادة العبيد، كما في الصورة الأولى.
أضف إلى ذلك، أنّ لازم ما ذكره (رحمه الله) هو عدم صحّة الامتثال والإطاعة الاحتمالية مطلقاً ولو في ظرف عدم التمكّن من الامتثال الجزمي التفصيلي، لعدم كون مثله إطاعة وانبعاثاً حقيقة، مع أنّه لا يلتزم بذلك.
وأمّا ما ذكره (رحمه الله) من أنّه على فرض الشكّ وانتهاء الأمر إلى الأصول العملية، فالمرجع حينئذٍ هو الاشتغال لا البراءة، باعتبار كون الترديد في المقام بين التعيين والتخيير، لاحتمال تعيّن خصوص الامتثال التفصيلي مع التمكّن منه في تحقق القرب والطاعة، لا الترديد بين الأقلّ والأكثر، كما في الشكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز، إذ لا جامع بين الامتثال التفصيلي والاحتمالي حتى يندرج بذلك الأقلّ والأكثر. فيرد عليه: أوّلاً: أنّ الجامع والقدر المشترك بينهما هو مطلق القرب والطاعة الجامع بين الامتثالين، فيندرج بذلك في الأقلّ والأكثر، حيث يكون المتيقّن اعتباره هو مطلق القرب والطاعة الجامع بين نحوي الامتثال الجزمي والاحتمالي، ويكون الشكّ حينئذٍ اعتبار في مرتبة زائدة.
وثانياً: لو سلّمنا أنّ الترديد في المقام بين التعيين والتخيير، إلاّ أنّنا ذهبنا هناك إلى أصالة البراءة لا الاحتياط، فتجري البراءة عن خصوصية التعيين، أي احتمال خصوصية الامتثال التفصيلي مع التمكن منه.
فالإنصاف حينئذٍ: هو جواز العمل بالاحتياط عند تحقّق موضوعه، وهو احتمال التكليف في العبادات ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيلي. والله العالم