الدرس 17 _ما يشترط في وجوب الزكاة 6
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو عادت هذه إليه استُحبَّ زكاتها السَّنة(1)
(1) قال في المدارك: «هذا مذهب الأصحاب، لا أعلم فيه مخالفاً...»، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه...»، وفي المنتهى: «إذا عاد المغصوب، أو الضَّال إلى ربه، استُحبَّ له أن يزكيَه لسنة واحدة، ذهب إليه علماؤنا...».
أقول: يدلُّ على ذلك مضافاً إلى التَّسالم بين الأعلام موثَّقة زرارة المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنّه قَالَ: فِي رَجُلٍ مَالُهُ عَنْهُ غَائِبٌ، لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، قَالَ: فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ، فَإِذَا خَرَجَ زَكَّاهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ (فإن) كَانَ يَدَعُهُ مُتَعَمِّداً، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، فَعَلَيْهِ الزَّكاة لِكُلِّ مَا مَرَّ بِهِ مِنَ السِّنِينَ»([1]).
وقدِ استُدلَّ أيضاً برواية سدير الصَّيرفي المتقدِّمة أيضاً([2])، ولكنَّك عرفت أنَّها ضعيفة؛ لعدم وثاقة سدير، والرِّوايات الواردة في مدحه أكثرها ضعيف السند والمعتبر منها لا يدل على المدح المعتد به.
ويدلُّ على أنَّ الأمر للاستحباب صحيحة إبراهيم بن أبي محمود المتقدِّمة أيضاً «قَاْلَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام): الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ يَأْخُذُهُمَا، مَتَى تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكاة؟ قَالَ: إِذَا أَخَذَهُمَا، ثُمَّ يَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ يُزَكِّي»([3])، وكذا غيرها مِنَ الرِّوايات الدَّالَّة على اعتبار بقاء النِّصاب تحت يده تمام الحول في وجوب الزَّكاة.
وعليه، فما عن بعض متأخِّري المتأخِّرين مِنَ الميل، أو القول: بوجوب الزَّكاة لسنة واحدة، في غير محله أصلاً.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا في النَّفقة المخلَّفة لعياله مَعَ الغيبة، وتجب مع الحضور، وقول ابن إدريس: بعدم الفرق، مزيَّف(1)
(1) ما ذكره المصنِّف (رحمه الله) يدخل في الشَّرط المتقدِّم، وهو إمكان التَّصرُّف، فإن ترك نفقةً لعياله وكانت من جنس الأنواع الزَّكويَّة، مَعَ اشتمالها على النِّصاب، وحال عليها في الأمور التي يشترط فيها حولان الحَوْل، كما في النَّقدين، فإذا كان غائباً فلا تجب الزَّكاة؛ لأنَّه غير متمكِّن مِنَ التَّصرُّف فيها، بخلاف ما لو كان حاضراً.
وتدلُّ على ما ذكرناه جملة مِنَ الرِّوايات:
منها: موثَّقة إسحاق بن عمَّار عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) «قَاْل: قُلْتُ لَه: رَجُلٌ خَلَّفَ عند أهلِه نَفَقةً، ألفَيْن لِسنتَيْن، عَلَيْها زَكَاةٌ؟ قَاْل: إنْ كانَ شَاهِداً فعَلَيْه زكَاةٌ، وإنْ كَاْن غَاْئِباً فَلَيْسَ عَلَيْه زكاةٌ»([4]).
ومنها: مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) «فِي رَجُلٍ وَضَعَ لِعِيَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَفَقَةً، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، قَالَ: إِنْ كَانَ مُقِيماً زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِباً لَمْ يُزَكِّهِ (يزكّ)»([5])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: موثَّقة أبي بصير بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يُخَلِّفُ لِأَهْلِهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ نَفَقَةَ سَنَتَيْنِ: عَلَيْهِ زَكَاةٌ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ شَاهِداً فَعَلَيْهَا زَكَاةٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِباً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ»([6])، وهي، وإن كانت ضعيفةً بطريق الكُلَيْني، والشَّيخ الطُّوسي، بعدم وثاقة إسماعيل بن مرَّار، إلاَّ أنَّها موثَّقة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله).
وممَّا ذكرنا تعرف فساد ما ذهب إليه ابن إدريس (رحمه الله) حيث لم يفرق بينهما، قال في السَّرائر: «وقال بعض أصحابنا: وإذا خلَّف الرَّجل دراهم أو دنانير، نفقةً لعياله، لسنة، أو سنتين، أو أكثر من ذلك، وكان مقدار ما تجب فيه الزَّكاة، وكان الرَّجل غائباً، لم تجب فيها زكاة، فإن كان حاضراً، وجبت عليه الزَّكاة فيها، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) في نهايته، وهذا غير واضح، بل حكمه حكم المال الغائب، إن قدر على أَخْذه متى أراده، بحيث متى رامه أخذه، فإنَّه يجب عليه فيه الزَّكاة، سواء كان نفقةً، أو مودعاً، أو كنزه في كنز، فإنَّه ليس بكونه نفقةً خرج من مُلْكه، ولا فرق بينه وبين المال الذي له في يد وكيله، ومودعه، وخزانته، وإنَّما أورده في نهايته إيراداً لا اعتقاداً، فإنَّه خبر من أخبار الآحاد، لا يلتفت إليه».
وقد ذكرنا في علم الأصول أنَّ هذا المبنى وهو عدم العمل بخبر الواحد فاسد.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا يمنع الدَّيْن من وجوبها، ولو لم يملك سوى وفائه(1)
في المدارك: «هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب، مدعى عليه الإجماع...»، وفي الحدائق: «المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم)، بلِ الظَّاهر، الاتِّفاق عليه، أنَّ الدَّين لا يمنع وجوب الزَّكاة متى ملك النِّصاب...»، قال العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى: «الدَّين لا يمنع الزَّكاة، سواء كان للمالك مال سوى النِّصاب أو لم يكن، وسواء استوعب الدَّين النِّصاب، أو لم يستوعبه، وسواء كانت أموال الزَّكاة ظاهرةً، كالنِّعَم والحَرْث، أو باطنةً كالذَّهب والفضَّة، وعليه علماؤنا أجمع...».
أقول: ممَّا يؤكّد ذلك مضافاً إلى التَّسالم بين الأعلام : أنَّ متعلَّق الدَّين الذِّمَّة، ومتعلَّق الزَّكاة العين الخارجيَّة، فلا تعارض بينهما، بل لو قلنا: إنَّ متعلَّق الزَّكاة الذِّمَّة أيضاً، فلا منافاة بين خطاب الدَّين، وخطاب الزَّكاة.
وتدلُّ أيضاً على عدم مانعيَّة الدَّين عَنِ الزَّكاة مضافاً لما تقدَّم إطلاق الرِّوايات الآتية إن شاء الله تعالى الدَّالَّة على أنَّ زكاة القرض على المستقرض.
وتدلُّ عليه أيضاً صريحاً حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وضُرَيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أَنَّهُمَا قَالَا: أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْضُوعٌ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ؛ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُهُ وَأَكْثَرُ مِنْهُ، فَلْيُزَكِّ مَا فِي يَدِهِ»([7]).
قال صاحب المدارك (رحمه الله) : «ويفهم مِنَ الشَّهيد (رحمه الله) في البيان التَّوقُّف في هذا الحكم، حيث قال بعد أن ذكر أنَّ الدَّين لا يمنع زكاة التَّجارة : وفي الجعفريَّات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ كان له مال، وعليه مال، فليحسب ما له وما عليه، فإن كان له فضل مائتا درهم (ماله فضل على مائتي درهم) فليعطِ خمسةً»([8])، قال : وهذا نصٌّ في منع الدَّين الزَّكاة، والشَّيخ في الخلاف ما تمسَّك على عدم منع الدَّين إلاَّ بإطلاق الأخبار الموجبة للزَّكاة، هذا كلامه (رحمه الله)، ونحن قد بيَّنَّا وجود النَّصِّ الدَّالِّ على ذلك صريحاً، وما نقله عَنِ الجعفريَّات مجهول الإسناد، مع إعراض الأصحاب عنه وإطباقهم على ترك العمل به».
([1]) الوسائل باب 5 من أبواب من تجب عليه الزَّكاة ح7.
([2]) الوسائل باب 5 من أبواب من تجب عليه الزَّكاة ح1.
([3]) الوسائل باب 6 من أبواب من تجب عليه الزَّكاة ح1.
([4]) الوسائل باب 17 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح1.
([5]) الوسائل باب 17 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح2.
([6]) الوسائل باب 17 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح3.
([7]) الوسائل باب 10 من أبواب من تجب عليه الزَّكاة ح1.
([8]) مستدرك الوسائل باب 8 من أبواب من تجب عليه الزَّكاة ح1.