الدرس 50 _ أصالة الاشتغال 2
[أصالة الاشتغال: دوران الأمر بين المتباينين]
[الامر الأوّل: في صلاحية العلم الاجمالي للمنجّزية، وعلّيته بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية]
*قال صاحب الكفاية: فيقع الكلام في مقامين المقام الأوّل في دوران الأمر بين المتباينين...*
أقول: قبل البحث عن ذلك ينبغي تقديم أمر نبّهنا عليه سابقاً، ومن خلاله يتضح الحال في المقام. وحاصله: إنّ العلم والظنّ والشكّ، بل جميع الصفات الوجدانية، مثل الإرادة والكراهة ونحوها، كلّها تقوم بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة كونها خارجية بلا سراية منها إلى وجود المعنون خارجاً، لأنّ ظرف عروضها هو الذهن. وعليه، فيكون مرجع العلم الاجمالي بشيءٍ -تكليفاً كان أو غيره- إلى تعلّقه بصورة اجمالية حاكية عن الواقع، ومن لوازمه قهراً هو الشكّ الوجداني بكلّ واحد من العناوين التفصيلية للأطراف.
وإن شئت فقل: أنّ القضية المعلومة بالاجمال تنحلّ إلى قضية معلومة بالتفصيل على سبيل منع الخلو في ضمن جميع الأطراف، وقضيّتين مشكوكتين في كلّ طرف بالخصوص، فلو علم بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء، فهنا قضيّة معلومة تفصيلاً، وهي وجوب أحدهما على سبيل منع الخلو، وقضيتان مشكوكتان، إحداها وجوب هذا الطرف بالخصوص، والأخرى وجوب الطرف كذلك.
وممّا ذكرنا ظهر وجه امتياز العلم الاجمالي عن العلم التفصيلي، وأنّه إنّما كان من جهة المعلوم والمنكشف، لا من جهة العلم والكاشف، فكان اتصاف العلم بالتفصيل من جهة أنّ متعلّقه عنوان تفصيلي للشيء حاكٍ عن وجوده بكل خصوصياته، ولذلك لا يجتمع مع الشكّ، لأنّه يرجع إلى اجتماع الضدين.
وهذا بخلاف العلم الاجمالي، فإنّ اتصافه بالاجمال إنّما كان باعتبار متعلّقه، لكونه عبارة عن الصورة الاجمالية المعبّر عنها بعنوان أحد الأمرين وبالجامع بين الطرفين، وذلك أيضاً لا بمعنى أنّ الجامع بنفسه وحيال ذاته متعلّق للعلم الاجمالي، بل بما أنّه مرآة اجمالي إلى الخصوصية الواقعية المرددة في نظر القاطع بين خصوصيات الأطراف، بنحو تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل، بحيث لو كشف الغطاء لكان المعلوم بالاجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقاً عليه بتمامه.
ثمّ إنّه أيضاً، ذكرنا سابقاً في مبحث القطع، أنّ العلم الاجمالي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالنسبة إلى المخالفة القطعية والموافقة القطعية، فراجع ما ذكرناه في الأمر السابع.
إذا عرفت ذلك، فيقع الكلام في عدّة أمور:
الأمر الأوّل: في صلاحية العلم الاجمالي للمنجّزية، وعلّيته بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية. وإن شئت فقل: إنّه يبحث في هذا الأمر عن امكان جعل الحكم الظاهري وعدمه في تمام الأطراف بحسب مقام الثبوت.
والمعروف بين الأعلام، أنّه لا يمكن جعل الحكم الظاهري، وذلك لسببين:
السبب الأوّل: مناقضة الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني وإن لم يستلزم المخالفة القطعية، كما ذهب إليه الميرزا النائيني (رحمه الله) وذلك في الأصول المحرزة كالاستصحاب، وذلك لأنّ المجعول في الأصول التنزيلية إنّما هو البناء العملي، والأخذ بأحد طرفي الشك على أنّه هو الواقع، وإلغاء الطرف الآخر، وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع، وهذا المعنى من الحكم الظاهري في الشبهات البدوية غير المقرونة بالعلم الاجمالي يمكن جعله، وكذا المقرونة بالعلم الاجمالي لكن بالنسبة إلى بعض الأطراف.
وأمّا بالنسبة إلى جميع الأطراف، فلا يمكن مثل هذا الجعل للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى آخر يضاده، ومعه، كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبداً، فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف.
والحاصل: أنّه لا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كلّ من الإنائين مع العلم بنجاسة أحدهما. نعم، يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في أحد الإنائين دون الآخر، لأنّه لا يعلم بنجاسته بالخصوص، فالذي لا يمكن هو الجمع بين الحكمين وجعل الاستصحابين معاً.
وهذا من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية كالمثال المتقدم، حيث إنّ استصحاب طهارة كلّ من الإنائين يقتضي جواز استعمال كلّ منهما في مشروط الطهارة، فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم، وهو وجوب الاجتناب عن النجس منهما، وعدم جواز استعماله في مشروط الطهارة، وبين أن لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية، كما إذا كان الإناءان مقطوعي النجاسة سابقاً، وعلم بطهارة أحدهما لاحقاً، فإنّه لا يلزم من استصحاب نجاسة كلّ منهما مخالفة عملية، لأنّ العلم بطهارة أحدهما لا يقتضي تكليفاً ليلزم من جريانهما مخالفة عملية.
والخلاصة: إنّه لا يمكن الحكم ببقاء المستصحبين مع العلم بانتقاض أحدهما، وهذا يرجع إلى عدم امكان الجعل ثبوتاً، ولا دخل للمخالفة العملية وعدمها في ذلك.
ثمّ قال الميرزا النائيني: «وأمّا الأصول غير التنزيلية، كأصالة الطهارة والبراءة والحلّ ونحو ذلك، فلا يلزم مانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلا المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين، فهي لا تجري إن لزم من جريانها مخالفة عملية للتكليف المعلوم، وتجري إن لم تستلزم ذلك.
والسرّ فيه: هو أنّ المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المشكوك فيه ...». (انتهى كلامه).
أقول: أمّا بالنسبة للأصول غير التنزيلية، فما ذكره (رحمه الله) هو الصحيح، إذ لا قصور في شمول أدلّة الأصول بذاتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي -مع قطع النظر عن منجّزية العلم وعن المخالفة العملية- وذلك لتحقّق موضوعها، وهو الشكّ بالوجدان.
فإنّ كلّ واحد من الإنائين الذين علم بحرمة أحدهما أو بنجاسته ممّا يصدق عليه بعنوانه الخاص أنّه شيء لا يعلم حرمته أو نجاسته، فيشمله حديث الرفع ودليل الحلّية والطهارة، فإنّ جريان الأصول إنّما كان في كلّ واحد من المشتبهين بعنوانه الخاص، ومع تغاير متعلّق كلّ من اليقين والشكّ في العلم الاجمالي، وعدم سراية العلم من نفس عنوان معروضه من الصور الاجمالية إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية، فلا قصور حينئذٍ في شمولها لكلّ واحد من الأطراف بخصوصه، حيث إنّ كلّ واحد منها ممّا يصدق عليه بعنوانه الخاص أنّه ممّا لا يعلم حرمته لا تفصيلاً ولا اجمالاً، فيكون حلالاً بمقتضى عموم دليل الحلّية، وكان مرفوعاً عن الناس بمقتضى حديث الرفع، فإنّ الذي علم حرمته إنّما هو العنوان الاجمالي المعبّر عنه بأحد الأمرين.
نعم، لو كان مفاد تلك الأصول هو نفي الإلزام في كلّ واحدٍ منضمّاً مع الآخر لاتجه المنع عن جريانها، لمكان العلم الاجمالي بحرمة أحدهما، ولكنّه ليس كذلك، بل إنّما مفادها هو عدم حرمة هذا بخصوصه وذاك بخصوصه، وبعد عدم تعلّق العلم الاجمالي بحرمة شيء منهما بعنوانه الخاص، لا يكاد يمنع العلم الاجمالي عن شمول العمومات لكلّ واحد منهما بعنوانه الخاص.
وأمّا الأصول التنزيلية كالاستصحاب ونحوه ممّا كان ناظراً إلى الواقع. فالإنصاف: أنّ ما ذكره الشيخ النائيني للمنع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي وإن لم يلزم المخالفة العملية لم يكتب له التوفيق، إذ لا وجه لدعوى المضادة بين الإحراز التعبّدي في كلّ من الطرفين بخصوصه مع الإحراز الوجداني بنحو الاجمال بالخلاف، فإنّ موضوع الإبقاء التعبدي فيهما لا يكون إلا المتيقّن، أو اليقين السابق بنجاسة كلّ من إناء زيد مثلاً وإناء عمرو بخصوصه، وبالعلم الاجمالي المزبور لم ينقلب اليقين السابق في شيء منهما إلى اليقين بالخلاف، إذ كلّ واحد بعنوانه الخاص ممّا يشكّ وجداناً في بقاء طهارته بعد كونه مسبوقاً باليقين بها.
نعم، لو قيل بسراية اليقين من متعلّقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى الخارج، لكان لِما أفيد وجه، ولكنّه ممنوع جداً، لما عرفت.
وبالجملة، لا نعرف وجهاً لإنكار الجمع بين الإحراز التعبّدي في كلّ من الطرفين مع الإحراز الوجداني بالخلاف في أحدهما بنحو الاجمال.
والخلاصة: إنّه لا قصور في شمول أدلّة الأصول بنفسها لأطراف العلم الاجمالي ما لم يستلزم طرحاً لتكليف منجّز في البين، وأنّ عدم جريانها في أطراف العلم إنّما هو لمانعية العلم الاجمالي من جهة منجّزيته، لا من جهة قصورها بنفسها، هذا في مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الإثبات، وأنّ أدلّة الأصول العملية تشمل أطراف العلم الاجمالي أم لا، فسيأتي الكلام فيها -إن شاء الله تعالى- قريباً.
هذا هو السبب الأوّل الذي ذكر لعدم امكان جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف.