الدرس 8 _ الاصول العملية: البراءة 6
هذا ويظهر من جماعة من الأعلام، أنّه لا بدّ من التقدير في الكلام، بحيث يكون هناك مجاز في الكلمة، أو في الاسناد، لشهادة الوجدان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج، وكذا غير الخطأ والنسيان ممّا ذكر في الحديث الشريف، فلا بدّ أن يكون المرفوع أمراً آخراً مقدّراً، صوناً لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية.
قال الشيخ (رحمه الله): «فإنّ حرمة شرب التتن مثلاً ممّا لا يعلمون، فهي مرفوعة، ومعنى رفعها كرفع الخطأ والنسيان رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة... إلخ». (انتهى كلامه). وهو يشير إلى الخلاف في تعيين ما هو المقدر، فقيل: إنّ المقدّر هو المؤاخذة والعقوبة. وقيل: إنّه عموم الآثار. وقيل: إنّه أظهر الآثار بالنسبة إلى كل واحد من التسعة. والإنصاف: أنّه لا حاجة إلى التقدير، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليه، إذا توقف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الرفع حقيقياً تكوينياً، فلا بدّ حينئذٍ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب. وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تنزيلياً تشريعياً لا حقيقياً، فلا يحتاج إلى تقدير شيء في البين، ومن الواضح أنّ الرفع بالنسبة إلى جميع المذكورات، هو رفع تنزيلي تشريعي، فإنّ الرفع التشريعي للشيء عبارة عن خلوّ صفحة التشريع عنه، وإن كان صفحة التكوين مشغولة به، ولا منافاة بين الرفع التشريعي والثبوت التكويني، كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): «لا ضرر ولا ضرار»، فإنّ الضرر والإضرار موجودان في الخارج بكثرة، وليس المراد من الحديث الشريف هو نفيهما خارجاً، للزوم الكذب، وإنّما المراد عدم تشريعهما، أي نفي الأحكام الضررية. وكذا قوله (عليه السّلام): «لا شك لكثير الشك»، فإنّ المراد نفي الحكم عن كثير الشك، أي لا شرعية لكثير الشك. نعم، رفع المذكورات تشريعاً إنّما يكون برفع آثارها الشرعية، حيث إنّ التنزيل لا بدّ من كونه بلحاظ الآثار المترتبة على الشيء. ففي فرض تعدّد الأثر ربّما يقع الكلام في أنّ التنزيل هل هو بلحاظ جميع الآثار أو بلحاظ بعضهن، ولكنّ ذلك غير مرتبط بالتقدير. والخلاصة: إنّه يصحّ إضافة الرفع إلى هذه الأمور المذكورة في الحديث إضافة تشريعية، ولا يلزم منها مجاز في الإسناد أو الكلمة.
[هل يشمل حديث الرفع الشبهة الحكمية والموضوعية؟]
ثمّ لا يخفى عليك أنّ الموصول في قوله (صلّى الله عليه وآله): «رفع عن أمتي تسعة... وما لا يعلمون»، فيه احتمالان:
الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد منه الشبهة الموضوعية، لأنّ المراد من الموصول فيما استكرهوا عليه، وما اضطروا إليه، وما لا يطيقون، هو الفعل الذي استكرهوا عليه، أو اضطروا إليه، أو لا يطيقونه، فإنّ هذه العناوين لا تعرض الأحكام الشرعية، وإنّما تعرض الأفعال الخارجية، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد من الموصول فيما لا يعلمون أيضاً هو الفعل الذي اشتبه عنوانه، كالشرب الذي اشتبه كونه شرب الخمر أو الخلّ. وعليه، فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية، ولا يعمّ الشبهات الحكمية الكلية.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من الموصول، ما يعمّ الحكم والفعل جميعاً، وهو الظاهر من الشيخ (رحمه الله) حيث صرّح: «بأن تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم... إلخ». (انتهى كلامه).
وأمّا القول بأنّه لا جامع بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية حتى يمكن إرادة ما يعمّهما من الموصول، بدعوى أنّ المرفوع في الشبهات الحكمية بعدما كان عبارة عن نفس متعلق الجهل، أعني الحكم الواقعي المجهول، كان إسناد الرفع فيه إلى الموصول من قبيل الإسناد إلى ما هو له، بخلاف الشبهات الموضوعية، فإنّ متعلّق الجهل فيها، أوّلاً وبالذات، هو الموضوع الخارجي وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي، والموضوع الخارجي لمّا كان بنفسه غير قابل للرفع، كان إسناد الرافع إليه من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له، وحيث إنّه لا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد، وإسناد واحد، فيدور الأمر بين أن يراد من الموصول الحكم المشتبه أو الموضوع. فيرد عليه: أنّ المراد من الموصول فيما لا يعلم هو مطلق الحكم الشرعي المجهول الجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية، حيث لا فرق بينهما، إلا أنّ منشأ الشك في الشبهات الحكمية فقد النص أو اجماله، وفي الشبهات الموضوعية الأمور الخارجية، ولا يوجب ذلك فرقاً بينهما في إضافة الرفع وإسناده إلى الموصول.
وبعبارة أخرى: فإنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة، إنّما هو الحكم الشرعي، وأمّا إضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى الأفعال الخارجية، فإنّما هو لمكان أنّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك، إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام، وإلا فالمرفوع فيها أيضاً هو الحكم الشرعي، كما أنّ المرفوع فيما لا يعلمون هو الحكم الشرعي أيضاً، ولمكان أنّ الرفع التشريعي لا بدّ وأن يرد على ما يكون قابلاً للوضع والرفع الشرعي، فالمرفوع إنّما يكون هو الحكم الشرعي، سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية. وبناءً على هذا الاحتمال، فالحديث الشريف يشمل كلاًّ من الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً.
إذا عرفت ذلك فقد يقال: إنّ المتعين هو الاحتمال الأوّل أي الشبهات الموضوعية فقط، وذلك لعدّة أمور:
الأمر الأوّل: إنّ وحدة السياق تقتضي ذلك، لأنّ المراد من الموصول في بقية الفقرات هو الفعل الذي لا يطيقون، والفعل الذي يكرهون عليه، والفعل الذي يضطرون إليه، لما تقدّم، من أنّه لا معنى لتعلّق الإكراه والاضطرار وما لا يطيقون بالحكم، فيكون المراد من الموصول فيما لا يعلمون أيضاً هو الفعل لوحدة السياق. وفيه: ما تقدم، من أنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة، إنّما هو الحكم الشرعي إضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى الأفعال الخارجية، إنّما هو لأجل أنّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك، إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام، وإلا فالمرفوع فيها، هو الحكم الشرعي، لما تقدم، من أنّ الرفع بالنسبة إلى جميع المذكورات، لا يكون إلاّ رفعاً تنزيلياً تشريعياً، لا حقيقياً.
الأمر الثاني: إنّ ورود الحديث مورد الامتنان يقتضي أن يكون المرفوع ممّا فيه ثقل على المكلّف، ومن المعلوم أنّ الثقيل هو الفعل لا الحكم، إذ الحكم فعل صادر من المولى، فلا يعقل كونه ثقيلاً على المكلف. وبعبارة أخرى: الثقيل على المكلّف هو فعل الواجب، أو ترك الحرام، لا مجرّد إنشاء الوجوب والحرمة من المولى سبحانه وتعالى. ومن هنا يتعيّن أن يكون المراد من الموصول في الجميع، هو الفعل لا الحكم. وفيه: أنّ الثقل وإن كان في فعل الواجب أو ترك الحرام، إلا أنّه لمّا كان منشأ ذلك هو إلزام المكلف بالفعل أو الترك، فصحّ إسناد الرفع إلى الحكم، إذ الموجب للثقل والضيق على المكلف هو حكم الشارع، كما لا يخفى.