الدرس 183 _زكاة الفِطرة 16
الأمر الثَّالث: اِختلف الأعلام في جواز تقديمها على وقتها في شهر رمضان:
فعن جماعة منهم: عدم جواز تقديمها إلاَّ على سبيل القرض، قال في المدارك: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، ذهب إليه الشَّيخ في الاقتصاد، والمفيد في المقنعة، وأبو الصَّلاح، وابن إدريس، وغيرهم، لأنَّها زكاة الفطر فلا تجب قبله، وإذا لم تكن واجبة لم يكن الإتيان بها مجزياً.
وقال الشَّيخ في النِّهاية، والمبسوط، والخلاف: يجوز إخراج الفِطْرة في شهر رمضان من أوَّله، وكذا قال ابنا بابويه، واختاره المصنف في المعتبر، وجماعة...».
وممَّنْ ذهب إلى الجواز الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك، والمصنِّف هنا أي في الدُّروس بل نسبه إلى المشهور، ثمَّ قال: «والأَولى جعلها قرضاً، واحتسابها في الوقت...».
وممَّنْ ذهب إلى جواز التَّقديم في شهر رمضان السّيِّد محسن الحكيم (رحمه الله) في المستمسك، والسّيِّد أبو القاسم الخوئيّ (رحمه الله). وهو مقتضى الإنصاف عندنا، كما سيتَّضح لك إن شاء الله تعالى .
أقول: إنَّ أقوى دليل لمَنْ ذهب إلى المنع من التَّقديم إلاَّ على سبيل القرض: هو أنَّ زكاة الفطرة عبادة مؤقَّتة، فلا يجوز أداؤها قبل وقتها، وقد عرفت أنَّ وقتها على المشهور هو دخول شهر شوال، وعلى ما ذهبنا إليه هو طلوع الفجر الثَّاني. وإذا ثبت توقيتها بذلك امتنع تقديمها عليه، كما ذكرنا في زكاة المال، حيث ورد في حسنة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): الرَّجل يكون عنده المال، أيزكِّيه إذا مضى نصف السَّنة؟ فقال: لا، ولكن حتَّى يحول عليه الحَوْل ويحلّ عليه، إنَّه ليس لأحد أن يُصلِّي صلاة إلاَّ لوقتها، وكذلك الزَّكاة، ولا يصوم أحد شهر رمضان إلاَّ في شهره، إلاَّ قضاءً، وكلُّ فريضةٍ إنَّما تُؤدَّى إذا حلَّت»([1]).
وفيه: أنَّ هذا الكلام متينٌ؛ إذِ القاعدة تقتضي عدم جواز تقديم المؤقَّت قبل وقته، إلاَّ أنَّه وردت الرُّخصة في المقام بجواز التَّعجيل، كما وردت الرُّخصة في تقديم غُسْل الجمعة يوم الخميس.
وأمَّا ما ورد هنا، فهو صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): «أنَّهما قالا: على الرَّجل أن يُعطي عن كلِّ مَنْ يعول من حُرٍّ وعبد، وصغير وكبير، يُعطي يوم الفطر (قبل الصَّلاة) فهو أفضل، وهو في سعة أن يعطيها من أوَّل يوم يدخل من شهر رمضان إلى آخره...»([2])، وهي واضحة جدّاً في جواز التَّقديم والتَّعجيل على سبيل الرُّخصة.
وأمَّا حَمْل التَّعجيل والتَّقديم على كونه من باب القرض في زكاة المال، فهو بعيد هنا جدّاً؛ لأنَّ الضَّمير في قوله: «وهو في سعة أن يعطيها...»، راجع إلى الفِطْرة المحدث عنها، لا القرض.
أضف إلى ذلك: أنَّ التَّقديم لو كان على سبيل القرض لما بقي للتَّحديد بأوَّل يوم من شهر رمضان فائدة؛ إذ لا إشكال في جواز القرض قبل دخول شهر رمضان.
والخلاصة: أنَّ التَّقديم هنا على سبيل الرُّخصة، ونظير هذا ليس عزيزاً في الفقه، فقد وردت الرخصة في جواز الفعل قبل الوقت، أو بعده في جملة من الموارد، نذكر بعضها على سبيل المثال:
منها: ما أشرنا إليه من تقديم غُسْل الجمعة يوم الخميس إذا خاف إعواز الماء يوم الجمعة.
ومنها: تقديم صلاة اللَّيل قبل وقتها للمسافر إذا خاف فوتها إن أخَّرها، أو صعب عليه فعلها في وقتها، وكذا الشَّاب وغيره ممَّنْ يخاف فوتها إذا أخَّرها لغلبة النوم ونحوه.
ومنها: تقديم نافلتي الظُّهرَيْن على الزَّوال يوم الجمعة، وغيره أيضاً، إذا علم أنَّه لا يتمكَّن منهما بعد الزَّوال؛ هذا كلُّه على مبنى المشهور.
وأمَّا على مبنانا، فيجوز اختياراً الإتيان بصلاة اللَّيل قبل منتصف اللَّيل، وكذا يجوز اختياراً الإتيان بنافلتي الظُّهرين قبل الزَّوال من دون فرق بين يوم الجمعة وغيره.
ومنها: جواز الإفاضة من المشعر قبل طلوع الشَّمس للنِّساء والضُّعفاء، حيث رخّص رسول الله (ص) لهم، وقد وردت الرِّواية بذلك.
ومنها: ما ورد من جواز تأخير الإحرام عن الميقات للمضطر، وغير ذلك من الموارد الكثيرة.
([1]) الوسائل باب 51 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
([2]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح4.