الدرس 181 _زكاة الفِطرة 14
الأمر الثَّاني: اِختلف الأعلام في آخر وقت الفِطْرة على ثلاثة أقوال:
الأوَّل: ما ذهب إليه المشهور من أنَّ آخر وقتها صلاة العيد، وإن صلاَّها في أوَّل الوقت.
قال في المدارك: «فذهب الأكثر إلى أنَّ آخر وقتها صلاة العيد، حتَّى قَاْل في المنتهى: ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد اختياراً، فإنْ أخَّرها أثم، وبه قال علماؤنا أجمع»، ونسبه العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة إلى علمائنا.
الثاني: آخر وقتها الزَّوال مطلقاً، سواء صلَّى العيد أم لا، اختاره المصنِّف (رحمه الله) هنا أي في الدُّروس وفي البيان، واختاره الإسكافيّ (رحمه الله)، وجماعة من الأعلام.
الثَّالث: امتداد الوقت إلى آخر يوم الفطر، اختاره العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى، ومال إليه صاحب المدارك (رحمه الله)، والسّبزواريّ (رحمه الله) في محكيّ الذَّخيرة.
وقدِ استدلّ للقول الأوَّل المشهور بين الأعلام بجملة من الرِّوايات:
منها: موثَّقة إسحاق بن عمَّار في الفقيه «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفِطْرة، فقال: إذا عزلتها فلا يضرُّك متى أعطيتها، قبل الصلاة أو بعدها...»([1])، وفي التَّهذيب: «قال: سألته عن الفِطْرة».
وهي، وإن كانت مضمرةً في التَّهذيب، إلاَّ أنَّها في الفقيه مسندةٌ إلى الإمام الصاَّدق (عليه السلام). ومفهومها: أنَّه إذا لم يعزلها فليس موسّعاً عليه الإعطاء قبل الصَّلاة أم بعدها، بل يتعيَّن أن يكون قبل الصَّلاة، بخلاف ما لو عزلها، فإنَّه موسّع عليه.
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث «قَاْل: وإعطاءُ الفِطرْة قبل الصَّلاة أفضل، وبعد الصَّلاة صدقةٌ»([2]).
والمراد بالأفضليّة هو الوجوب، أي يجب الإعطاء قبل الصَّلاة، وذلك بقرينة قوله: «بعد الصَّلاة صدقةٌ»؛ إذِ المراد بالصَّدقة هي الصَّدقة المندوبة مقابل الفِطْرة الواجبة.
وعليه، فبعد الصَّلاة يخرج وقتها، ويتعيَّن كونها مندوبةً.
ومنها: رواية إبراهيم بن ميمون المتقدِّمة «قَاْل: قَاْل أبو عبد الله (عليه السلام): الفِطْرة إن أُعطيت قبل أن تخرج إلى العيد فهي فطرةٌ، وإن كانت بعد ما يخرج إلى العيد فهي صدقةٌ»([3])، ودلالتها مثل دلالة صحيحة عبد الله بن سنان، إلاَّ أنَّها ضعيفة بجهالة إبراهيم بن ميمون.
ومنها: رواية علي بن موسى طاووس في كتاب الإقبال «قَاْل: روينا بإسنادنا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي أن يُؤدِّي الفِطْرة قبل أن يخرج النَّاس إلى الجبَّانة، فإن أدَّاها بعد ما يرجع فإنَّما هو صدقة وليست فطرةً»([4])، ودلالتها كسابقتها، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال؛ لعدم ذكر ابن طاووس (رحمه الله) إسناده إلى الإمام الصَّادق (عليه السلام).
ومنها: رواية محمَّد بن مسعود العياشيّ في تفسيره عن سالم بن مكرم الجمَّال عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: أعطِ الفِطْرة قبل الصَّلاة، وهو قول الله: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ ]البقرة: 43[، والذي يأخذ الفطرة عليه أن يُؤدِّي عن نفسه وعن عياله، وإن لم يُعطِها حتَّى ينصرفَ من صلاتِه فلا يُعدّ له فطرةً»([5])، ودلالتها كسابقاتها، إلا أنَّها ضعيفة بالإرسال أيضاً؛ لعدم ذكر ابن مسعود العياشيّ (رحمه الله) طريقه إلى سالم بن مكرم الجمَّال.
ومنها: رواية سليمان بن حفص المروزي «قَاْل: سمعتُه يقول: إنْ لم تجد مَنْ تضع الفِطْرة فيه فاعزلها تلك السَّاعة قبل الصَّلاة...»([6])، وهي واضحة الدَّلالة ، إلاَّ أنَّها ضعيفة بجهالة المروزيّ، وبالإضمار.
وأمَّا القول الثَّاني وهو كون آخر الوقت هو الزَّوال : فقدِ استدلّ له بعدَّة أدلَّةٍ:
الأوَّل: عدم صلاحيَّة فعل صلاة العيد لتحديد الوقت؛ ضرورة اختلاف وقت أداء المكلَّفين لها، بل إن كثيراً من النَّاس لا يصلُّونها، خصوصاً في هذه الأزمنة، فلا بُدّ حينئذٍ من إرادة وقت الصَّلاة، وهو إلى الزَّوال.
وفيه: أوَّلاً: أنَّه لا مانع من جعل وقتَيْن لانتهاء الفِطْرة، فمَنْ يُصلِّي صلاة العيد ينتهي الوقت عنده بالصَّلاة، ومن لا يُصلِّي صلاة العيد ينتهي وقتها عنده بالزَّوال مثلاً، بل هذا هو المختار عندنا، كما سيتَّضح لك.
وثانياً: أنَّ اختلاف وقت أداء المكلَّفين لها لا يكون مانعاً من صلاحيَّة أداء الصَّلاة لتحديد الوقت، فلا محذور في اختصاص كلِّ شخصٍ بوقت مُغيّاً بأدائه الصَّلاة.
الثَّاني: صحيحة العيص المتقدِّمة «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفِطْرة، متى هي؟ فقال: قبل الصَّلاة يوم الفطر، قلتُ: فإن بقي منه شيءٌ بعد الصَّلاة؟ قَاْل: لا بأس، نحن نُعطي عيالنا منه، ثمَّ يبقى فنقسِّمه»([7]).
وجه الاستدلال بها: هو أنَّ ذيلها تضمَّن جواز تأخيرها عن الصَّلاة، أُنظر إلى قوله: «فإن بقي منه شيءٌ بعد الصَّلاة، فقال: لا بأس...».
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ الذَّيل محمولٌ على صورة العزل؛ إذ بعد العزل يجوز التَّأخير إلى أيِّ وقتٍ أراد.
ويشهد لذلك قوله (عليه السلام): «نحن نُعطي عيالنا منه»، والمراد بإعطاء العِيال: هو وضع الزَّكاة عند العِيال، وعزلها عندهم ثمَّ تقسيمها، وليس المراد من إعطاء العيال تفريقها عليهم، كتفريقها على الفقراء، بحيث يكون العِيال مصرفاً لها، كما هو واضح.
([1]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الفطرة ح4، وذيله.
([2]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([3]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح2.
([4]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح7.
([5]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح8.
([6]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([7]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح5.