الدرس 125 _اصناف المستحقين للزكاة 26
وأمَّا مُنشئ السَّفر الذي ليس له نفقة السَّفر، فهل هو داخل في ابن السَّبيل أم لا؟
يظهر من المصنِّف (رحمه الله) هنا وفي اللُّمعة أنَّه داخل فيه، وكذا يظهر ذلك من ابن الجنيد (رحمه الله).
واحتجّ ابن الجنيد (رحمه الله) على ما ذهب إليه بدليلَيْن على ما نُقِل عنه :
الدَّليل الأوَّل: أنَّ المُنشئ للسَّفر يُسمَّى ابن السَّبيل لأنَّه يريد الطَّريق.
وفيه: أننا نمنع من صِدْق ابن السَّبيل عرفاً على مَنْ لم يتلبَّس بُعد بالسَّفر.
الدَّليل الثَّاني: أنَّه يريد إنشاء السَّفر في غير معصية، فجاز أن يُعطَى سهم ابن السَّبيل، كما لو نوى المسافر إقامة مدَّةٍ ينقطع سفره فيها، ثمَّ أراد الخروج، فإنَّه يدفع إليه من الصَّدقة، وإن كان مُنشئاً للسَّفر.
وفيه: أنَّ قياس مُنشِئ السَّفر من وطنه على مُنشِئ الخروج من موضع الإقامة حيث إنَّه يجوز إعطاؤه من سهم ابن السَّبيل مع انقطاع سفره بإقامة العشرة قياس مع الفارق، فإنَّ كون الإقامة والبقاء ثلاثين يوماً في مكان متردِّداً قاطعة للسَّفر شرعاً لا موضوعاً؛ إذ هو مسافر، وإنَّما حكمه حكم غير المسافر.
وعليه، فهذا لا يُوجِب صيرورة محلِّ الإقامة وطناً له حتى يخرج بذلك عن موضوع ابن السَّبيل، وهذا بخلاف مَنْ يريد إنشاء السَّفر من بلده، فإنَّه لا يصدق عليه اسم المسافر حقيقةً فضلاً عن كونه ابن سبيل.
ثمَّ إنَّك قد عرفت أنَّ المناط في استحقاقه من هذا السَّهم هو احتياجه إليه في غربته.
وهل يُشترط عدم تمكُّنه من الاستدانة أو بيع شيءٍ من أمواله مثلاً، كما صرَّح صاحب الجواهر (رحمه الله)، أم يعتبر عجزه عن التّصرُّف في أمواله ببيع ونحوه دون الاستدانة، كما قوَّاه صاحب المدارك (رحمه الله)، أم لا يُعتبر العجز عن شيء منهما، كما حكاه في المسالك عن المعتبر، ونفى عنه البُعْد؟
أقول: إن كانت الاستدانة أو التّصرُّف في أمواله بالبيع ونحوه أمراً ميسوراً له، فمثل هذا الشَّخص لا يُعدّ محتاجاً إلى الصَّدقة، بل ولا ابن سبيل عرفاً.
وأمَّا لو كانت الاستدانة أو البيع ونحوه أمراً حَرَجيّاً عليه، بحيث لا يتحمله الإنسان العادي إلا إذا كان مضطرّاً بشدَّة، فحينئذٍ لا تكون القدرة عليهما مانعةً عن الاستحقاق؛ إذ لا تُؤثِّر مثل هذه القدرة في خروجه عن حدِّ الاحتياج عرفاً.
الأمر الثَّاني: المعروف بين الأعلام أنَّه يُدفع إلى ابن السَّبيل قدر الكفاية اللاَّئقة بحاله من المأكول والملبوس والمركوب أو ثمنها إلى أن يصل إلى بلده أو يصل إلى مكان يمكنه فيه الاعتياض ونحوه ممَّا يغنيه عن تناول الصَّدقات.
والمعروف بينهم أيضاً أنَّه لو فضل منه شيء ولو بالتَّضييق على نفسه أعاده؛ لأنَّ الصَّدقة لا تحلّ لغنيّ، وقد أُبيحت لابن السَّبيل الذي هو غنيّ في بلده لمكان حاجته الفعليَّة العارضة له في أثناء الطَّريق، وهي لا تقتضي إباحتها له إلاَّ بمقدار حاجته في وقت احتياجه، فلو دفع إليه أزيد من مقدار حاجته أو بمقدار حاجته، ولكنَّه لم يصرفه في حاجته حتى وصل إلى بلده، فقد صار إلى حال لا تحلّ الصَّدقة له فيها فعليه إيصال ما بقي عنده من الصَّدقة إلى مستحقِّيها.
وفي المقابل حُكي عن الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف أنَّه لا يعيد، بناءً منه على أنَّه يملكه بالقبض، فما يفضل منه بعد الوصول إلى بلده ليس إلاَّ كما يفضل في يد الفقير من مال الصَّدقة بعد صيروته غنيّاً.
وفيه: أنَّ ما يستحقّه الفقير لا يتقدّر بقدر، فما يصل إليه من الزَّكاة يملكه بقبضه ملكاً مستقرّاً، وهذا بخلاف ابن السَّبيل فإنَّه لا دليل على تملكه للزَّكاة، بل الدَّفع إليه مراعى بصرفه في وقت حاجته الفعليَّة، أي قبل استيلائه على أمواله، فلو فضل منه شيء أعاده على ما هو عليه، من غير فرق في ذلك بين النَّقدَيْن وغيرهما.
ولكن عن العلاَّمة (رحمه الله) في النِّهاية: «أنَّ المدفوع إليه إن كان من العروض، كالدَّابة والثِّياب ونحوهما، فلا يجب الردّ»، قال صاحب الجواهر (رحمه الله): «ولعلَّ ذلك لأنَّ المزكِّي يملك المستحقّ عين ما دفعه إليه، والمنافع تابعة، والواجب على المستحقّ ردّ ما زاد من العين على الحاجة، ولا زيادة في هذه الأشياء إلاَّ في المنافع، ولا أثر لها مع ملكيَّة تمام العين، اللَّهمّ إلاَّ أن يلتزم انفساخ ملكه عن العين بمجرَّد الاستغناء؛ لأنَّ ملكه متزلزل، فهو كالزِّيادة التي تجدّد الاستغناء عنها».
وفيه: ما عرفت من أنَّه لا دليل على ملكيَّته لما يدفع إليه، حتى الملكيَّة المتزلزلة، وإنَّما يُباح له التّصرُّف في حال حاجته، فمع عدم الحاجة لوصوله إلى بلده مثلاً فلا بدَّ أن يردّ ما دُفِع إليه، سواء أكان المدفوع إليه من النَّقدَيْن أو العَروض، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو نوى المسافر إقامة عشرة خرج عن ابن السَّبيل عند الشَّيخ، ولم يخرج عند ابن إدريس(1)
(1) ذهب جماعة من الأعلام، منهم الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط، والعلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة، وابن فهد (رحمه الله) في المحرّر إلى أنَّ المقيم عشراً فصاعداً يخرج عن صِدْق ابن السَّبيل عرفاً؛ لانقطاع سفره، فلا يُعطى من سهم ابن السَّبيل.
وذهب المشهور بين الأعلام إلى أنَّ المقيم عشراً فصاعداً أو المتردِّد ثلاثين يوماً أو نحو ذلك ممَّا يُوجِب التَّمام لا يخرج عن صِدْق ابن السَّبيل عرفاً، وإن انقطع سفره شرعاً بالنِّسبة للقصر والإتمام والإفطار والصِّيام؛ لما عرفت في مبحث صلاة المسافر من أنَّ المقيم عشراً فصاعداً هو مسافر عرفاً، ولم ينقطع موضوع السَّفر.
نعم، ينقطع السَّفر حكماً. وهذا هو الإنصاف، وإن أردت المزيد من التَّوضيح، فراجع ما ذكرناه، والله العالم بحقائق أحكامه