الدرس189 _لباس المصلي 62
الأمر الثاني: لا إشكال في جواز حمل الحرير في غير الصَّلاة، بل هو من القطعيّات، كحمل الذهب، فإنّ هذا مفروغ عنه.
وأمّا في الصَّلاة فإن كان الحرير ممّا لا تتم به الصلاة فلا إشكال أيضاً، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جواز لبس الحرير في الصَّلاة إذا كان ممّا لا تتمّ به فضلاً عن حمله.
وأمّا إذا كان مما تتمّ به الصَّلاة، فهل يجوز حمله فيها أم لا؟.
الأظهر: الجواز، وذلك لأنّ قوله N في صحيحة محمّد بن عبد الجبار المتقدّمة: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» لا تشمل المحمول، إذ المنهي عنه هو الصَّلاة المشتملة على الحرير، بحيث يكون لابساً له، ومجرد الحمل لا يتضمن الاشتمال.
وعليه، فالمحمول ليس منهيّاً عنه، وسيأتي أيضاً إن شاء الله تعالى جواز حَمْل الذهب في الصَّلاة، والله العالم.
(1) اِختلف الأعلام في هذه المسألة؛ فالمعروف بينهم جواز الصَّلاة فيه على كراهيّة، وفي الوافي: «الأشهر ذلك»، وفي التنقيح: «على الأظهر»، وفي المفاتيح: «عليه عامّة المتأخرين»، وفي حاشية الإرشاد: «ذهب إليه أجلاّء الأصحاب»، وفي المدارك: «هذا قول الشيخ في النهاية والمبسوط، وابن إدريس، وأبي الصلاح...».
وفي المقابل حُكِي عن جماعة المنع من ذلك؛ منهم الشّيخ الصدوق R، بل بالغ، فمنع من التكّة التي في رأسها الإِبْرَيْسَم، ومنهم العلاّمة R في المنتهى والمختلف، والمصنّف R في البيان، والأردبيلي R في مجمع البرهان، وصاحب المدارك R، وصاحب الحدائق R، وحكي عن غيرهم أيضاً.
وقدِ استدلّ أصحاب القول بالمنع بعدّة أدلَّة:
منها: عموم الأخبار المانعة عن الصَّلاة في الحرير.
وفيه: أنّه لا يوجد ما يدل على عموم المنع من الصَّلاة في الحرير إلاّ صحيحة إسماعيل بن سعد الأحوص، وصحيحة أبي الحارث، وصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة في أوّل الباب.
ولكنّ هذه الصحاح المتقدمة مشتملة على لفظ الثوب غير الصّادق على مثل التكّة والقَلَنْسُوَة، ونحوهما، وضعاً أو انصرافاً.
ومنها: العمومات الناهية عن لُبْس الحرير المحض الشاملة بإطلاقها لحال الصَّلاة.
وفيه: أنَّها قاصرة عن إفادة المنع عن الصَّلاة من حيث هي، وذلك لأنّ المنهي عنه في الرّوايات إنّما هو لُبْسه لا مطلق استعماله.
ومن الواضح أنّ اللُبْس أمر مغاير لأفعال الصَّلاة، فلا يصدق على القيام والقعود والركوع والسّجود، وغيرها من أجزاء الصَّلاة، عنوان اللُبْس، بل هي مما يتحقّق بها التصرّف الملبوس، لا أنّها بعينها لُبْس له كي لا تصحّ عبادة.
ومنها: خصوص صحيحة محمد بن عبد الجبّار المتقدّمة «قال: كتبتُ إلى أبي محمد N أسأله هل يصلّى في قَلَنْسُوَة حرير محض أو قَلَنْسُوَة دِيبَاج؟ فكتب N: لا تحل الصَّلاة في حرير محض»[i]f323.
ومنها: خصوص صحيحته الأخرى المتقدّمة أيضاً «قال: كتبتُ إلى أبي محمّد N أسأله هل يصلّى في قَلَنْسُوَة عليها وبر ما لا يُؤْكل لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتبَ: لا تحلّ الصَّلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصَّلاة فيه إن شاء الله»[ii]f324، وهما واضحتان جدّاً في عدم الجواز في التكّة والقَلَنْسُوَة حيث وقع فيهما السّؤال عنهما، فيكون الجواب كالنصّ في إرادتهما.
وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر من احتمال إرادة الثوب من الحرير، حيث قال: «بل يمكن منه دعوى إرادة الثوب، ونحوه من الحرير، في الصحيحين، إن لم نقل: إنّه المنساق منه، كما عن الشهيد والمختلف عند الردّ على القاضي، الاعتراف به، ومنه يرتفع الوثوق بخلافه هنا، بل قيل: إنّ الحرير المحض لغة هو الثوب المتّخذ من الإِبْرَيْسَم، أي مع الإطلاق إلى أن قال: فيكون بناء على ذلك جواب السّؤال متروكاً فيه، ولعلّ تركه لإشعار الحكم بالصحَّة فيه بالبطلان في غيره، وهو منافٍ للتقيّة، إذ الصَّلاة صحيحة عندهم، وإن حرم اللُُبْس، من غير فرق بين ما تتمّ فيه الصَّلاة وغيره، فعدل الإمام N إلى بيان حرمة الصَّلاة فيه المسلّمة عندهم، وإنِ اقتضى ذلك الفساد عندنا دونهم...».
فيرد عليه: أن دعوى إمكان إرادة الثوب من الحرير، وإن كانت ممكنة، إلاّ أنّه لا دليل عليها.
وأمّا دعوى الإنسياق فعهدتها على مدّعيها، وعليه أن يثبت ذلك، ولا تكفي مجرد الدعوى.
وأمّا القول: بأنّ الحرير المحض لغةً هو الثوب المتّخذ من الإِبْرَيْسَم.
ففيه: أنّ الأمر لو كان كذلك لَمّا صحّ وصف التكّة والقَلَنْسُوَة في الصحيحتين بالحرير المحض، فإن صدقه عليهما كصدقه على الثوب.
وأمَّا قوله: «بناء على ذلك يكون جواب السؤال متروكاً فيه» فهو بعيد جداً عن ظاهر الروايتين، وأما قوله: (ولعل تركه لإشعار الحكم بالصحَّة فيه...) فيرد عليه أن مخالفة ذلك للتقية ليس بأقوى من ظهور قوله N (لا تحل الصَّلاة في حرير محض) في حرمة نفس الصَّلاة زائداً على اللباس، فإن هذا أيضا مخالف للتقية.
والخلاصة أن ما ذكره صاحب الجواهر لم يكتب له التوفيق، وعليه فالصحيحتان تدلان على المنع من الصَّلاة في الحرير فيما لا تتم به الصَّلاة.