الدرس 135 _ المقصد الأول في الاوامر 67
التقسيم الثاني: الواجب المعلق والمنجز
قال صاحب الكفاية R: «ومنها: تقسيمه إلى المعلق والمنجز، قال في الفصول: إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له؛ كالمعرفة، وليس منجزاً، وإلى ما يتعلق وجوبه به، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليس معلقاً، كالحج، فإنّ وجوبه يتعلق بالمكلف من أوّل زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه».
هذا تقسيم آخر للواجب، وهو تقسيم خصوص الواجب المطلق كما ذهب إليه صاحب الفصول إلى واجب معلّق ومنجّز؛ فالأوّل كالحج بعد تحقق الاستطاعة؛ حيث يكون الوجوب حالياً فعلياً، ولكن الواجب استقبالي معلّق على مجيء يوم عرفة وهو غير مقدور له. والثاني كوجوب الصلاة بعد دخول وقتها؛ حيث يكون الوجوب فعلياً والواجب فعلياً ليس متوقفاً على شيء، وكوجوب المعرفة بأصول الدين، فإنّه غير معلّق على شيء.
ثمّ إنّ الواجب المشروط عند المشهور بالمعنى المتقدم يكون القيد فيه راجعاً إلى الوجوب، وهذا بخلاف الواجب المعلق؛ فإنّ القيد فيه يكون راجعاً إلى الواجب، وهذا هو الفرق بينهما.
ثمّ إنّ الذي ألجأ صاحب الفصول إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو ما رآه من وجوب بعض المقدمات الوجودية قبل وجوب ذيها، وأنّه يجب تحصيلها مع أنّ وجوب ذي المقدمة غير فعلي؛ لتوقّفه على شرط غير حاصل بالفعل، فالتزم بتقدم الوجوب على الوقت مثلاً ليصحح وجوب تلك المقدمات.
ثمّ إنّه أُشكل على هذا التقسيم بإشكالين:
الإشكال الأوّل: لغوية التقسيم
أنكر الشيخ الأنصاري على صاحب الفصول هذا التقسيم؛ لأنّه إنّما يصح بناءً على مغايرة المشروط للمعلق، والمفروض اتحادهما؛ لأنّ المشروط عند الشيخ الأنصاري هو المعلّق عند صاحب الفصول.
ولكن الإنصاف: أنّ إنكار الشيخ على صاحب الفصول لا يتجاوز حدود اللفظ؛ لأنّ الواجب المعلق هو المشروط عند الشيخ، فالنزاع بينهما لفظي. نعم، أنكر الشيخ الواجب المشروط عند المشهور، ولكنّه متفق في الواقع مع صاحب الفصول.
أمّا صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام، فقد علّلوا لغوية هذا التقسيم بانتفاء أثره؛ فإنّ كان الأثر المتوخّى منه ترشّح وجوب المقدمة من وجوب ذيها، فهو حاصل بمعزل عن هذا التقسيم؛ لأنّ وجوب ذي المقدمة فعلي، فيصلح لترشّح وجوب المقدمة عنه وإن لم نقسّم الواجب إلى معلّق ومنجّز.
وأمّا السيد الخوئي R وجماعة من الأعلام، فقد أشكلوا على هذا التقسيم بأنّه تقسيم للواجب المشروط لا للواجب المطلق؛ مثلاً وجوب الحج: هل هو مشروط بيوم عرفة أم مطلق؟ ومن المعلوم أنّ التكليف لم يتعلّق بذات الفعل على الإطلاق، وإنّما تعلق بإيقاعه في زمن خاص، فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلاً في ملاكه، وإلا فلا مقتضي لأخذه في موضوعه. وعليه، فبطبيعة الحال يكون مشروطاً به، غاية الأمر أنّه على نحو الشرط المتأخر.
والإنصاف: أنّ هذا الكلام متين من حيث دخالة الزمان في الملاك، وبالتالي يكون شرطاً للوجوب، إلا أنّنا أنكرنا الشرط المتأخر، وأجبنا عنه بما تقدّم، وبالتالي صحّحناه على طريقتنا المتقدمة، فراجع.
هذا ما ذكره الأعلام، وهو ما لا ينبغي النزاع فيه، وإنّما ينبغي النزاع فيما لو كان الواجب المعلّق ممكناً أم لا، وهو ما يحملنا إلى الإشكال الثاني.
الإشكال الثاني: استحالة الواجب المعلق
قال صاحب الكفاية R: «ثم إنّه ربما حكي عن بعض أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق، وهو أن الطلب والإيجاب، إنّما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد، فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكة عن المراد، فليكن الإيجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟! فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر. قلت: فيه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل».
الظاهر أنّ المحكي عنه هذا الإشكال هو المحقق النهاوندي على ما في حاشية الشيخ المشكيني تلميذ صاحب الكفاية R. وعلى كل حال، فحاصل هذا الإشكال: إنّه كما لا يمكن التفكيك بين الإرادة والمراد زماناً، كذلك لا يمكن التفكيك بين الإيجاب والواجب.
وتوضيحه: إنّ الإرادة من مقولة الكيف، وهي صفة نفسانية قائمة في صقع النفس، وهي أمر غير اختياري ومتوقّف على مقدّمات غير اختيارية إن تحققت حصلت الإرادة التي تحرّك القوة المنبثّة في العضلات نحو المراد؛ فالإرادة علة للمراد، والعلة لا تنفكّ عن المعلول زماناً، ولذلك لا يمكن التفكيك بينهما، وهكذا بالنسبة إلى الإيجاب والواجب؛ حيث لا يمكن أن يكون الإيجاب حالياً فعلياً ويكون الواجب استقبالياً معلقاً.
أجاب صاحب الكفاية على كلام النهاوندي بجواب ينقسم إلى شقّين:
أوّلاً: إنّ الإرادة مهما بلغت فهي مرتبة خاصة من الشوق الأكيد الحاصل في أفق النفس، وهو صفة حقيقية من مقولة الكيف النفساني تبعث على حركة العضلات نحو المراد في وقته حالياً كان أم استقبالياً، وهي بالوجدان قد تنفكّ عن المراد سواء كان للمراد مقدمات أم لا، فالأوّل كمن كانت له إرادة حالية شديدة في الزواج، إلا أنّ المراد يتوقّف على مقدمات كتهييء الزوجة اللاّئقة، والمكان المناسب وما أشبه ذلك. والثاني كمن كانت له هذه الإرادة وقد تحققت كل هذه المقدمات إلا أنّ المراد متوقف على مجيء زمانه.
ثانياً: لو سلّمنا أنّ الإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد، إلا أنّنا لا نسلّم بصحة قياسهما على الإيجاب والواجب؛ لأنّ الإيجاب ينفك عن الواجب قطعاً ولو في الزمن القصير، بل كل الواجبات الشرعية ينفك فيها الوجوب عن الواجب زمناً ما؛ مثلاً: لو أوجب المولى الصلاة على المكلّف، فيقوم المكلف بتصوّر الصلاة بمقدماتها وأجزائها وشروطها، والثواب على القيام بها، والعقاب على تركها، وأنّها عمود الدين، ومعراج المؤمن... فإنّ كل هذه التصورات تسبق امتثاله للواجب ممّا يجعله متأخراً عن الإيجاب حتماً. فلا إشكال حينئذٍ في تعلّق الوجوب بأمر استقبالي. وإذا جاز التفكيك ولو في الزمن القصير، جاز في الزمن الطويل؛ لأنّ ملاك الاستحالة والإمكان واحد بنظر العاقل، فلا فرق إذاً بين الزمن القصير والطويل من هذه الجهة.