الدرس 106 _ المقصد الأول في الاوامر 38
وللمزيد من التفصيل حول هذه المسألة نقول:
هناك أربع صور لأدّلة البدل والمبدل منه من حيث الإطلاق وعدمه:
الصورة الأولى:
أن يكون الدليل في كلّ من البدل والمبدل منه مطلقاً، وقد بيّنا الإطلاق في أدلّة البدلية سابقاً.
وأمّا إطلاق دليل المبدل منه، فهو عبارة عن كون المبدل منه مطلوباً في صورة التمكّن منه وعدمه، ومقتضى إطلاق أدلّة البدل عدم الإعادة والقضاء، ومقتضى إطلاق أدلّة المبدل منه الإعادة والقضاء، إلا أنَّه لا تعارض بينهما؛ لأنَّ إطلاق دليل البدل حاكم على إطلاق دليل المبدل منه حكومة موسعة؛ حيث إنَّه ناظر إليه وموسع لموضوعه. هذا هو المعروف بين الأعلام، وعليه لا بدّ من القول بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء.
الصورة الثانية:
أن يكون دليل البدل مطلقاً ودليل المبدل منه مهملاً أو مجملاً، هنا نأخذ بإطلاق دليل البدل، وعليه يكون الإتيان به مجزياً عن المبدل منه، ولا تجب الإعادة ولا القضاء.
الصورة الثالثة:
أن يكون دليل المبدل منه مطلقاً ودليل البدل مهملاً أو مجملاً، هنا نأخذ بإطلاق دليل المبدل منه، ممّا يقتضي عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء.
الصورة الرابعة:
أن يكون كلّ من دليل البدل والمبدل منه مهملاً أو مجملاً، هنا تأتي النوبة إلى الأصل العملي، وهذا ما سنبيّنه قريباً.
كلام السيد البروجردي في الإجزاء:
ذهب السيد البروجردي (رحمه الله) وجماعة من الأعلام إلى الإجزاء؛ باعتبار أنَّه ليس في الواقع أمران أوّلهما واقعي أوّلي والثاني اضطراري ثانوي لنسأل عن إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الثاني عن المأمور به بالأمر الأوّل، وإنَّما هناك أمر واحد واقعي انصبّ على طبيعي المأمور به، كلّ ما في الأمر أنَّ هذا الطبيعي له أصناف وأنواع تختلف باختلاف حالاته؛ مثلاً: الأمر بالصلاة واحد، إلا أنَّ الصلاة بالطهارة المائية نوع، والصلاة بالطهارة الترابية نوع آخر، ولكن الأمر بهما واحد، لا سيّما إذا نظرنا إلى تنـزيل التيمّم منـزلة الوضوء بل إلى جعلهما فردين لطبيعي الطهارة؛ كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإنَّ التيمم أحد الطهورين».
وهذا نظيره في صلاة الحضر والسفر، فإنَّ المطلوب هو الصلاة؛ غاية الأمر أنَّ المطلوب من المسافر ركعتان، ومن غيره أربع ركعات، وهكذا فإنَّ هناك طبيعة واحدة، وأمراً واحداً.
والخلاصة: إنَّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري يجزي عن الإتيان بالمأمور به الاختياري بعد كونهما فردين لطبيعة واحدة المأمور بهما بأمر واحد.
الجواب: أوَّلاً: إنَّ القياس على صلاة المسافر في غير محلّه؛ فمن فاتته صلاة وهو مسافر، فإنَّه يقضيها ركعتين كما فاتته، وهذا بخلاف من كانت وظيفته التيمّم إلا أنَّه لم يصلِّ حتى خرج الوقت، ثمَّ حضره الماء، وجب عليه قضاء هذه الصلاة بالطهارة المائية رغم أنَّها حينما فاتته كانت واجبة بالطهارة الترابية. وكذا من كانت وظيفته الصلاة من جلوس لعذر، إلا أنَّه لم يصلِّ حتى خرج الوقت، ثمَّ ارتفع العذر، وجب عليه قضاؤها من قيام لا من جلوس كما فاتته، فهذا يدلّ على أنَّ الأمر مختلف، فلا يقاس أحدهما على الآخر.
ثانياً: إنّا نجد أنَّ في الصلاة أوامر متعدّدة، فهناك أمر بالإضافة لصلاة العاجز عن القيام غير الأمر بها بالنسبة للقادر على القيام، وأيضاً هناك أمر بالصلاة للمتمكّن من استقبال القبلة غير الأمر بها بالنسبة لغير المتمكّن. وكذا الحال بالنسبة للمتمكّن من طهارة البدن والثوب؛ فإنَّ الأمر بالصلاة مع طهارتهما غير الأمر بها في حال عدم تمكّنه منهما. وعليه فمجرّد وجود عنوان عام للصلاة لا يجعل الأمر بها واحداً.
كلام الشيخ النائيني في الإجزاء:
يقول النائيني (رحمه الله): لو كان المكلّف غير قادر على الطهارة المائية طوال الوقت، فيكون مخيّراً بين أفراد الطهارة الترابية تخييراً عقلياً؛ لأنَّها متساوية الأقدام، فلا فرق بينهما من حيث الإجزاء.
أمّا إن لم يكن قادراً على الطهارة المائية في أوّل الوقت فقط؛ حيث لا تكون أفراد الطهارة على امتداد الوقت متساوية؛ لأنَّ الطهارة المائية أفضل من الترابية، هنا إن تيمّم المكلف وصلّى ثمَّ حضره الماء في الوقت، يكون التيمّم مجزياً ولا تجب الإعادة؛ لأنَّ الشارع حينما أجاز له البدار إلى التيمّم، فلا يخلو هذا الأمر من أن يكون ظاهرياً، وهذا موكول إلى المقام الثاني من هذا المبحث، أو يكون واقعياً، وعليه يكون الإتيان بالمأمور به مجزياً عقلاً.
وإن قيل: ما المانع من أن يأمر الشارع بالبدار، ويأمر بالإعادة بحال ارتفع العذر في الوقت؟
قلنا: إنَّ الأمر بالإعادة في الوقت يتنافى مع كون الفرائض اليومية خمسة. وعليه، لا بدَّ من القول بالإجزاء وإن ارتفع العذر في الوقت، وهذا يكشف عن أنَّ الفعل في حال الاضطرار، ولو مع فرض عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت، واجد لتمام الملاك، فيكون في هذا الحال في عرض الأفراد الواجدة لتمام الملاك.
الجواب: أوّلاً: لم نجد أنَّ المولى أجاز البدار إلا في بعض الموارد، منها التقيّة، ومنها ما إذا تيمّم المكلّف في آخر الوقت وصلّى الظهرين، ثمَّ دخل وقت المغرب وهو باقٍ على تيمّمه، فيجوز له أن يصلّي به العشاءين، وعليه فلا يمكن قياس غيرهما عليهما.
ثانياً: إنَّ دعوى أنَّ أمر الشارع بالإعادة مع أمره بالبدار يتنافى مع كون الفرائض خمسة، ينفع في خصوص الصلاة، ولا ينفع في غيرها.
الإنصاف: أنَّ هناك أمرين أحدهما واقعي أوّلي، وثانيهما واقعي اضطراري ثانوي، ولا يجزي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي بحال ارتفاع العذر في الوقت؛ لأنّنا إذا لاحظنا أدلّة الاضطرار نجد أنَّ موضوعها هو الاضطرار المستوعب لتمام الوقت إلى حدّ لا يسع للمبدل منه.
وعليه، لا يصدق على المكلف أنَّه مضطر واقعاً إلى البدل إلا إذا كان عاجزاً عن المبدل منه في تمام الوقت، أمّا في حال اضطرار المكلف إلى فرد من أفراد البدل؛ كالاضطرار إلى التيمم في أوّل الوقت، فيقال في ذلك أنَّ ما اضطر إليه ليس مطلوباً منه، وما هو مطلوب منه ليس مضطراً إليه؛ لأنَّ الأمر المتعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود، فالاضطرار إلى جزء من أفراد الطبيعة ليس اضطراراً إلى نفس الطبيعة.
ويترتّب على ذلك عدم جواز البدار إلا إذا علم أو اطمأن ببقاء العذر إلى نهاية الوقت، أو استصحبه استصحاباً استقبالياً، إلا أنَّه في الحالتين إن ارتفع العذر في الوقت وجبت عليه الإعادة؛ فإنَّ جواز البدار في الحالتين تكليفي، فلمّا ارتفع العذر في الأثناء انكشف للمكلف بقاء الأمر الواقعي.