الدرس 48 _ مقدمات علم الاصول 48
الأمر الثالث عشر المشتقّ
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «الثالث عشر: إنه اختلفوا في أنَّ المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازاً فيما يتلبس به في الاستقبال».
هذا هو الأمر الثالث عشر والأخير من المقدمات، والكلام فيه حول المشتقّ في الجملة، فهل هو موضوع لخصوص المتلبِّس بالمبدأ في الحال؛ بحيث يكون حمل المشتق عليه حقيقة في خصوصه؟ أم أنَّه موضوع للأعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ؛ بحيث يكون حمل المشتق عليهما حقيقة؟ هذا بعد الاتفاق على أنَّ الحمل حقيقي حال التلبُّس بالمبدأ، ومجازي قبل ذلك، فيما لو كان حصول التلبُّس في الاستقبال والجري فعلاً، فيكون الخلاف حول حقيقية الحمل ومجازيّته فيما لو حصل التلبس ثمَّ انقضى عن الذات.
المبحث الأوّل المراد من المشتق
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور: أحدها: إنَّ المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات، مما يكون مفهومه منتزعاً عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإيجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة، وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات...».
لمّا كان تحرير محلّ النـزاع مقدَّم عليه، قدّم صاحب الكفاية (رحمه الله) أموراً قبل الخوض فيما لو كان المشتق موضوعاً لخصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو الأعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ، فكان أوّل ما بحثه حول المراد من المشتق.
أمّا المراد منه لغة: فهو عبارة عمّا اشتق من شيء؛ أي ما يؤخذ منه؛ كما يشتق الفرع من الأصل.
وأمّا لدى النحويين: فهو عبارة عن لفظ مأخوذ من لفظ آخر، وهذا يلزمه أن يكون مبدأ المشتق نحوياً مبدأً اشتقاقياً دائماً وغير جامد، وهو المصدر المجرّد لدى أكثر النحاة وجماعة من علماء الصرف؛ حيث تشتق منه الأفعال، وأسماء الفاعلين، وأسماء المفعولين، والصفات المشبهة، وصيغ المبالغة، والمصادر المزيدة، بينما ذهبت جماعة من أهل النحو والصرف إلى أنَّه الفعل.
والإنصاف كما لعلّه يأتي إن شاء الله تعالى : أنَّ كلاًّ من المصدر والفعل ليسا مبدأً للاشتقاق؛ للمباينة التامة بين المعنى المصدري بما له من الحدود مع غيره من المشتقات؛ كوضوح التباين بين بعضها وبعضها الآخر، ومعه كيف يمكن أن يكون المصدر أو الفعل هو الأصل المحفوظ في المشتقّات ومادة سارية فيها، والحال أنَّ المصدر أيضاً كغيره من الصيغ؛ كفعل الماضي والمضارع وغيرهما، له هيئة خاصة ومادّة مشتركة بينه وبين غيره، تدلّ المادة فيه على معنى حدثي، وتدلّ الهيئة على إضافة هذا المبدأ إلى ذات ما، ونسبته إليها نسبة تصورية؟!
وعليه، فالأصل المحفوظ والساري في جميع المشتقات لا يكون إلا ذاك المعنى الحدثي المجرّد عن جميع التعيّنات، وإن لم يكن تصوّره وإخطاره في الذهن إلا في ضمن تعيّن خاص.
نعم، لمّا كان الأقرب إلى ذلك المعنى المجرّد هو المصدر من بين سائر المشتقات، باعتبار دلالته على مجرّد المبدأ، وهو الحدث المضاف إلى ذات ما، مع عرائه عن خصوصية الزمان، أمكن دعوى أنَّ المصدر أصل لباقي المشتقات.
هذا بالنسبة إلى المشتق لدى النحاة، وأمّا لدى الأصوليين، فهو كما عرّفه صاحب الكفاية بأنَّه: «خصوص ما يجري منها على الذوات»؛ أي يحمل عليها، وسواء كان المبدأ المتصفة به الذات اشتقاقياً أم جعلياً، وسواء كان اتحاد المشتق مع الذات في الخارج على نحو الحلول؛ كما في (زيد مريض)، أم على نحو الإيجاد؛ كما في (زيد آكل)؛ أي أوجد الأكل، أم على نحو الصدور؛ كما في (زيد ضارب)؛ أي بملاحظة ما وقع عليه الضرب، أم على نحو الانتزاع؛ كما في (زيد فوق السطح).
ثمَّ إنَّ بعض العلماء من أهل النحو والأصول قسّموا المشتق على ثلاثة أنواع:
المشتق الأصغر: وهو عبارة عن المشتق الذي تكون حروفه زائدة عن حروف المبدأ إلا أنَّها على نفس ترتيبه مع الاختلاف في الهيئة؛ مثل: (ضارب) و(مضروب) المشتقَّين من (الضرب).
المشتق الصغير: وهو عبارة عن المشتق الذي تكون حروفه عين حروف مبدئه إلا أنَّ ترتيبها مختلف مع الاتفاق في الهيئة؛ مثل: (جَذْبٌ)، و(جَبْذٌ).
المشتق الكبير: وهو عبارة عن المشتق الذي تكون حروفه غير حروف المبدأ مع الاتفاق في الهيئة؛ مثل: (نهق)، و(نعق).
ومهما يكن من شيء، فقد اتضح أنَّ معنى المشتق لدى النحاة مغاير في الجملة لمعناه لدى الأصوليين؛ لأنَّه لا بدّ أن يكون مبدأ المشتق لدى النحويّين اشتقاقياً، سواء صحّ حمله على الذات أم لا، بينما لا يشترط ذلك لدى الأصوليين؛ إذ لا ضير من كون المبدأ جعلياً غير اشتقاقي؛ نعم لا بدّ أن يكون المشتق قابلاً ليُحمل على الذات.
وعليه، فهما يلتقيان في أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبّهة وصيغ المبالغة؛ حيث إنَّ كلّ هذه مشتقة من مبدأ اشتقاقي، فيتحقّق مناط مفهوم المشتق لدى النحويين، وكلّها قابلة للحمل على الذات، فيتحقق مناط مفهوم المشتق لدى الأصوليين. ويختلفان في الأفعال، والمصادر المزيدة، والجوامد، فالأولى؛ كـــــ (ضَرَبَ)، والثانية كـــــ (الإكرام)، فإنَّها مشتقات نحوية غير أصولية؛ لأنّها مشتقة من مبدأ اشتقاقي، ولكن لا يصحّ حملها على الذات، والثالثة؛ كـــــ (الأخ والزوج والحرّ)، مشتقات أصولية غير نحوية؛ لأنّها مشتقّة من مبدأ جعلي غير اشتقاقي، ولكن يصحّ حملها عل الذات. وعليه، فتكون النسبة بين المشتق لدى النحاة والأصوليين عموماً وخصوصاً من وجه.
إنَّ المبحوث عنه هنا هو خصوص العناوين العرضية من المشتقات؛ أي التي لا يلزم من زوالها زوال الذات؛ كالضرب في (زيد ضارب)، فإنَّ ذات زيد باقية بعد زوال الضرب وانفكاكه عنها.
أمّا العناوين الذاتية التي يلزم من زوالها زوال الذات؛ كإنسانية الإنسان، أو حجرية الحجر، فهي خارجة عن محل البحث؛ إذ لا معنى للنـزاع حول صحّة حمل هذه العناوين على الذات بعد انقضائها الذي يلزمه ارتفاع الذات نفسها، فإنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؛ والسرّ فيه أنَّ حقيقة العناوين الذاتية في الصورة النوعية لا في الهيولى التي لها قابلية الصيرورة من شيء إلى آخر، فلا يصحّ حملها على الذات ولو مجازاً بعد ذهاب صورتها النوعية؛ فلا يقال للتراب أنَّه إنسان بعد أن أصبح تراباً؛ لأنَّ إنسانية الإنسان ليست بالتراب، بل بالصورة النوعية التي يمتاز بها الإنسان عن غيره. وكذا الحال بالنسبة للكلب بعد صيرورته مِلحاً؛ فإنَّ هذا الملح لم يكن كلباً؛ إذ الكلبية إنَّما هي بالصورة النوعية التي يمتاز بها الكلب عن غيره.
ويترتّب على هذا الكلام ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله) من أنَّ العناوين الذاتية قسمان:
الذاتية في باب البرهان: وهي المحمولة الخارجة عن ذات الموضوع، المنتزعة عن مقام ذاته؛ كالإمكان والوجوب والامتناع؛ فإنَّها وإن كانت خارجة عن مقام الذات، إلا أنَّها منتزعة عن ذلك المقام، فلا يعقل أن تخلو ماهيّة من الماهيات عن إحدى هذه المواد الثلاث؛ فالإمكان مثلاً منتزع عن مقام ذات الممكن وهو الإنسان لا عن أمر خارج عن مقام ذاته، وإلا فلازمه أن يكون الممكن في مرتبة ذاته خالياً عن الإمكان، وحينئذٍ يلزم انقلاب الممكن إلى الواجب والممتنع؛ لاستحالة خلوّ شيء عن إحدى المواد الثلاث.
الذاتية في باب الكليّات: وهي أجزاء الماهية المقوِّمة لها؛ كالحيوانية والناطقية بالنسبة للإنسان.
هذان القسمان لا يجري فيهما النـزاع؛ لأنَّ انتفاء العناوين الذاتية، سواء الذاتية في باب البرهان أم الكليات، يلزمه انتفاء الذات، فلا يبقى ما يُتنازع عليه من أنَّ حمل المشتق عليه حقيقي أم مجازي.