الدرس 182_في المناهي وهي على أقسام ثلاثة (14).ثانيها: ما نهي عنه لعارض
الدرس 182 / الثلاثاء: 25-أيار-2021
الأمر الرَّابع: حدَّ الشيخ (رحمه الله) الحُكْرة في الرُّخص بأربعين يوماً، وفي الغلاء والشِّدَّة بثلاثة أيام، ووافقه بعض الأعلام؛ وذلك لمعتبرة السَّكوني المتقدِّمة[1]f261، ومعتبرة أبي مريم المتقدِّمة[2]f262 أيضاً.
والمشهور أنَّه لا حدَّ للحُكْرة؛ لإطلاق الرِّوايات المتقدِّمة التي منها حسنة الحلبي[3]f263 المتقدِّمة أيضاً، وغيرها مِنَ الرِّوايات.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ الرِّوايات المطلقة لا تقيَّد هنا بمعتبرة السَّكوني، ومعتبرة أبي مريم؛ لِمَا عرفت من أنَّ الحكم مبنيٌّ على الكراهة.
ومِنَ المعلوم أنَّ المطلق لا يُحمَل على المقيَّد، لا في المستحبَّات، ولا في المكروهات.
وعليه، فيجمع بينهما بالشِّدة والضَّعف، وقد ذكرنا سابقاً أنَّ التَّحديد بثلاثة أيام في الغلاء، وبالأربعين في الرُّخص، قرينة على الحَمْل على الكراهة؛ إذ مع عدم الحاجة لا مانع مِنَ الاحتكار أقل مِنَ الأربعين.
وقد حمل المصنِّف (رحمه الله) معتبرة السَّكوني على صورة مظنَّة الحاجة، أي أنَّه يظنُّ الحاجة في الغلاء والشِّدة بعد الثَّلاثة، وفي الرُّخص بعد الأربعين يوماً، وهذا الحمل، وإن كان في حدِّ نفسه مقبولاً، إلا أنَّه لا دليل عليه، والصَّحيح ما ذكرناه.
الأمر الخامس: هل يشترط في الاحتكار شراء الغَلَّة أم أنَّ الاحتكار مطلق حَبْس الطَّعام، ولا يختصُّ بالشِّراء، بل يشمل ما إذا وهبه أحد، أو هو زرع بنفسه؟
ذهب العلاَّمة (رحمه الله) إلى الأوَّل، أي اشتراط الشِّراء في الحُكْرة، قال: «وفي حسنة الحلبي دلالة عليه...»، والرِّواية التي أشار إليها هي صحيحة الحلبي المتقدِّمة «قَاْلَ: سُئِلَ عَنِ الْحُكْرَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْحُكْرَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ طَعَاماً، وَلَيْسَ فِي الْمِصْرِ غَيْرُهُ، فَتَحْتَكِرَهُ...»[4]f264.
وقد ورد الشِّراء أيضاً في صحيحة أبي الفضل سالم الحنَّاط[5]f265، وفي معتبرة أبي مريم المتقدِّمتَيْن[6]f266.
ولكنَّ الظَّاهر: أنَّ الشِّراء محمول على إرادة المثال؛ إذ لا مفهوم في الرِّوايات الثَّلاث يدلُّ على انتفاء الاحتكار إذا لم يكن بالشِّراء.
والحَصْر في صحيحة الحلبي لا يعود إلى الشِّراء؛ بل يعود إلى أنَّه لو كان في المصر طعام غيره فلا بأس، لا أنَّ مفهومها: أنَّه إنْ لم يشترِ الطَّعام فلا بأس، لاسيَّما أنَّ الغالب في موارد الاحتكار هو الشِّراء، والأمر سهل عندنا بعد أن كان الحكم وهو الكراهة قابلاً للشِّدَّة والضَّعْف، أي أنّه في الشِّراء يكون أشدَّ من غيره.
الأمر السَّادس: لا خلاف بين الأعلام في أنَّ الإمام (عليه السلام) ومَنْ يقوم مقامه وهو المجتهد إن وُجِد وإلا فعدول المسلمين يُجبِر المحتكرِين على البيع، سواء قلنا: بحرمة الاحتكار أو كراهته.
إن قلتَ بناءً على القول بالكراهة : إنَّ هذا ينافي قاعدة عدم جَبْر المسلم على ما لا يجب عليه.
قلتُ: لا مانع مِنَ التَّخصيص؛ للأدلَّة الدَّالَّة على جَبْره، ولو تعذَّر الإجبار قام الحاكم مقامه، أي أنَّ الحاكم يبيع المتاع المحتكَر.
بقي الكلام في أنَّ الإمام (عليه السلام)، ومَنْ يقوم مقامه، هل يُسعِّر عليهم أم لا؟
المشهور بين الأعلام أنَّه لا يُسعِّر على المحتكرِين، ونقل العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى عن الشَّيخ المفيد، وسلاَّر t: أنَّ للإمام (عليه السلام) أنْ يسعِّر عليهم، قال المفيد (رحمه الله) على ما نقله العلامة في المختلف : «وللسُّلطان أن يسعِّرها على ما يراه مِنَ المصلحة، ولا يسعِّرها بما يُخسِّر به أربابها فيها».
وقال الشَّيخ (رحمه الله): «لا يجوز للسُّلطان أن يُجبِر على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى»، وقد عرفت أنَّ هذا هو المشهور بين الأعلام.
وقد يستدلُّ لهم بروايتَيْن:
الأولى: رواية الحسين بن عبيد الله بن ضَمْرة عن أبيه عن جدِّه عن عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام) «أَنَّهُ قَالَ: رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) أَنَّهُ مَرَّ بِالْمُحْتَكِرِينَ، فَأَمَرَ بِحُكْرَتِهِمْ أَنْ تُخْرَجَ إِلَى بُطُونِ الْأَسْوَاقِ، وَحَيْثُ تَنْظُرُ الْأَبْصَارُ إِلَيْهَا، فَقِيلَ لِرَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله): لَوْ قَوَّمْتَ عَلَيْهِمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله)، حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَنَا أُقَوِّمُ عَلَيْهِمْ؟! إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى الله يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ، وَيَخْفِضُهُ إِذَا شَاءَ»[7]f267، وهي ضعيفة بجملة مِنَ المجاهل.
الثَّانية: مرسلة الشَّيخ الصَّدوق في الفقيه «قَاْل: قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله): لَوْ سَعَّرْتَ لَنَا سِعْراً، فَإِنَّ الْأَسْعَارَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، فَقَالَ (صلّى الله عليه وآله): مَا كُنْتُ لِأَلْقَى الله تَعَالَى بِبِدْعَةٍ لَمْ يُحدِث إِلَيَّ فِيهَا شَيْئاً، فَدَعُوا عِبَادَ الله يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا اسْتُنْصِحْتُمْ فَانْصَحُوا»[8]f268، وهي ضعيفة بالإرسال.
والصَّحيح: أن يستدلَّ على عدم التَّسعير بالأصل.
ويؤيِّده: الرِّوايتان المتقدِّمتان، وجملة أخرى مِنَ الرِّوايات لا حاجة لذكرها، ثمَّ إنَّه إذا لم يسعِّر عليهم في الغلاء ففي الرُّخص من باب أَولى.
ثمَّ إنَّ ما ذكرناه من عدم التَّسعير عليهم إنَّما هو إذا لم يشدِّد المحتكِر على الناس في السِّعر.
وأمَّا مَعَ التَّشديد، بحيث يحصل الإجحاف، فيردُّه الإمام (عليه السلام)، ومَنْ يقوم مقامه، بالنُّزول إلى حدِّ ينتفي الإجحاف، كما عن ابن حمزة، والفاضل في المختلف، والشَّهيد الثَّاني في المسالك (رحمهم الله جميعاً)، وغيرهم مِنَ الأعلام، وهو مقتضى الإنصاف في ذلك؛ لحديث نفي الضَّرر والضِّرار؛ ولأنَّه لولا ذلك لانتفت فائدة الإجبار؛ إذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر الناس على بذله، فيضر بحالهم، والفرض رفع الضَّرر.
وأمَّا القول: بأنَّ الإمام (عليه السلام) لا يسعِّر عليهم، ولو مَعَ الإجحاف في السِّعر؛ وذلك لروايتَيْن:
الأولى: صحيحة عبد الله بن سنان المروية في الفقيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أَنَّهُ قَالَ فِي تُجَّارٍ قَدِمُوا أَرْضاً، (فاشتركوا في البيع) وَاشْتَرَكُوا عَلَى أَنْ لَا يَبِيعُوا بَيْعَهُمْ إِلاَّ بِمَا أَحَبُّوا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ»[9]f269، ولكنَّها خارجة عمَّا نحن فيه.
الثَّانية: رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: نَفِدَ الطَّعَامُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله)، فَأَتَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، قَدْ نَفِدَ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ عِنْدَ فُلَانٍ، فَمُرْهُ يَبِيعُهُ. قَالَ: فَحَمِدَ الله، وَأَثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلَانُ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرُوا أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ نَفِدَ إِلاَّ شَيْئاً عِنْدَكَ، فَأَخْرِجْهُ، وَبِعْهُ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا تَحْبِسْهُ»[10]f270.
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بمحمَّد بن سنان.
وثانياً: أنَّها محمولة على ما هو الغالب من عدم الإجحاف بحقِّهم.
ثمَّ إنَّه لو كان المحتكر مجتهداً أجبره المجتهد الآخر، وإن كان مفضولاً، فإن لم يكن فعدول مقلِّديه، فضلاً عن مقلِّدي غيره، والله العالم والهادي.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ومنه الغِشُّ بما يخفى، كما سلف، وإخفاء العيب الباطن. (انتهى كلامه)
(1) ذكرنا مسألة الغِشِّ، وإخفاء العيب، بالتَّفصيل عند قول المصنِّف (رحمه الله): سابقاً «والغِشُّ الخفي كشَوْب اللَّبن بالماء»، فراجع.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والتَّدليس. (انتهى كلامه)
(2) ذكرنا ذلك عند قوله سابقاً بعد الغش : «وتدليس الماشطة لتزيين الخدِّ وتحميره...»، فراجع.
تمَّ الانتهاء منه عصر يوم الخميس لتسعٍ بقين من شهر جمادى الآخرة سنة 1442 للهجرة، الموافق لليوم الرَّابع من شهر شُبَاط سنة 2021 للميلاد، والحمد ﷲ ربِّ العالمين.
[1] الوسائل باب 27 من أبواب آداب التِّجارة ح1.
[2] الوسائل باب 27 من أبواب آداب التِّجارة ح6.
[3] الوسائل باب 27 من أبواب آداب التِّجارة ح2.
[4] الوسائل باب 28 من أبواب آداب التِّجارة ح1.
[5] الوسائل باب 28 من أبواب آداب التِّجارة ح3.
[6] الوسائل باب 27 من أبواب آداب التِّجارة ح6.
[7] الوسائل باب 30 من أبواب آداب التِّجارة ح1.
[8] الوسائل باب 30 من أبواب آداب التِّجارة ح2.
[9] الوسائل باب 26 من أبواب آداب التِّجارة ح2.
[10] الوسائل باب 29 من أبواب آداب التِّجارة ح1.