الدرس 164_التكسّب الحرام وأقسامه (159). مسائل: االرَّابعة: في حرمة بيعُ الحرِّ وشراؤُه / الخامسة: في بيع المصحف للكافر
الدرس 164 / الخميس: 15-نيسان-2021
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: الرَّابعة: يحرم بيعُ الحرِّ وشراؤُه، ولا عِبْرة بإذنه، ولو كان حربيّاً. نعم، لو أثبت يده عليه وباعه جاز؛ لِحصول الرِّقِّ حينئذٍ. (انتهى كلامه)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه يشترط في العوضَيْن في البيع أن يكونا مملوكَيْن، أي ممَّا يصحُّ تملُّكه.
وعليه، فلا يصحُّ بيع ما لا يملك شرعاً، كالحرِّ، فالبيع مبادلة مال بمال، والحرُّ لا يكون مالاً، كما هو واضح، لا فرق في ما ذكرنا بين المسلم وغيره مِنَ الكفَّار، حتَّى الحربيَّ، فإنَّه قبل استرقاقه هو حرٌّ لا يصلح بيعه، ولا شراؤه، حتَّى لو رضي بذلك.
نعم، بعد الاسترقاق يصحُّ بيعه؛ لكونه عبداً مملوكاً لمن استرقَّه، وهو مال.
وبالجملة، فإنّ ما ذكرناه لا خلاف فيه بين الأعلام.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويجوز إجارته، وإجارة الحرِّ نفسه للعمل المباح. (انتهى كلامه)
(1) لا إشكال فيما ذكره المصنِّف (رحمه الله)، بل لا إشكال في وقوع منافع الحرِّ وأعماله عوضاً في البيع.
أمَّا بعد وقوع المعاملة عليها، فلا إشكال في وقوعها عوضاً في البيع؛ لأنَّها مال، كما لوِ استأجر أحد شخصاً للكتابة عنده مدَّة سنة، فيجعل ذلك عوضاً لِما يشتريه، كما إذا أراد شراء دابَّة فيجعل عوضها عبارة عَنِ الكتابة التي ملكها مِنَ الأجير بالإجارة الواقعة قبل شراء الدَّابَّة؛ إذ لا إشكال في كون تلك الكتابة مالاً، فيصحُّ جَعْلها عوضاً في البيع.
وأمَّا قبل وقوع المعاملة على أعمال الحرِّ، فهل يصحُّ جعلها عوضاً في البيع أم لا؟
فإنْ قلنا: بأنَّ أعمال الحرِّ هي مال، ولو قبل وقوع المعاملة عليها، فيصحُّ جَعْلُها عِوَضاً.
وأمَّا إنْ قلنا: بأنَّ أعمال الحرِّ قبل وقوع المعاملة عليها هي ليست مِنَ الأموال، فلا يصحُّ حينئذٍ وقوعها عوضاً؛ لما عرفت من أنَّ البيع هو مبادلة مال بمال، وهذه ليست مالاً، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في كتاب البيع.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: الخامسة: لو باع المصحف على كافر بطل على الأصحِّ. وقيل: تصحُّ، وتزال يده قهراً ببيعه على مسلم. (انتهى كلامه)
(2) المشهور بين العلاَّمة (رحمه الله)، ومَنْ تأخَّر عنه، عدم جواز بيع المصحف مِنَ الكافر، ومنهم المصنِّف (رحمه الله) هنا وفي باب الجهاد من هذا الكتاب، حيث قال هناك: «ولا يجوز بيع المصحف للكافر، ولا يملكه لو اشتراه...».
أقول: إذا قلنا: بحرمة بيع المصحف الشَّريف مِنَ المسلم، فحرمة بيعه مِنَ الكافر يكون من باب أَولى، ولا حاجة حينئذٍ إلى ذكر الأدلَّة.
وأما إذا قلنا: بجواز بيعه مِنَ المسلم كما هو مقتضى الإنصاف عندنا فهل يحرم بيعه مِنَ الكافر أم لا؟
والمشهور بينهم هو عدم الجواز، وقد يستدلُّ له بعدَّة أدلَّة:
منها: فحوى ما دلَّ على عدم تملُّك الكافر للمسلم.
وفيه أوَّلاً: أنَّه يصحُّ بيع العبد المسلم مِنَ الكافر، وقد ذكر الأعلام أنَّ الكافر لو اشترى أحد أبويه المسلمين، فإنَّه ينعتق عليه فوراً.
ومِنَ المعلوم أنَّه لا عِتْق إلاَّ في ملك، فلو لم يملكه لَمَا انعتق عليه، وهذا واضح.
وثانياً: أنَّه مضافاً إلى حرمة القول بالقياس قياس مَعَ الفارق، وذلك لأنَّ في تملُّك الكافر للعبد المسلم فيه نوع مِنَ الذُّلِّ له، بخلاف تملُّكه للمصحف الشَّريف، فإنَّه لا ذلَّ في ذلك، بل قد يكون المصحف سبباً لهدايته إلى الإسلام، فيكون فيه نوع مِنَ الاحترام له.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل الأول ليس تامّاً.
ومنها: الحديث النَّبويّ المعروف، وهو ما رواه الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه «قال: وقال (صلّى الله عليه وآله): الإسلام يعلو، ولا يُعلى عليه»[1]f182، فإنَّ الشَّيخ الطُّوسي (رحمه الله) قدِ استدلَّ به على عدم تملُّك الكافر للمسلم.
ومِنَ المعلوم أنَّ مُلْك الكافر للمسلم إن كان علوًّا على الإسلام، فتملُّكه للمصحف أشدُ علوًّا عليه، ولذا لم يوجد هنا قَوْل بتملُّكه وإجباره على البيع، كما قيل به في العبد المسلم.
وأمَّا قول المصنف (رحمه الله) هنا أي في الدُّروس «وقيل: تصحُّ، وتُزَال يده قهراً ببيعه على مسلم»، فلم يحضرني القائل بذلك، نعم قيل بذلك بالنسبة إلى العبد المسلم.
ومهما يكن، فقد استُدلَّ بهذا الحديث الشَّريف على عدم صحَّة بيع المصحف الشَّريف مِنَ الكافر.
وفيه أوَّلاً: أنَّه ضعيف بالإرسال.
وثانياً: أنَّه مجمل؛ إذ يحتمل فيه خمسة معانٍ:
الأوَّل: أن يكون المراد منه أنَّ الإسلام أشرف المذاهب.
الثَّاني: أن يكون المراد منه أنَّه يعلو من حيث الحجة والبراهين، فإنَّه لا يُعلى عليه، من هذه الجهة؛ إذ لا يوجد في باقي الأديان ما يضاهي براهينه.
الثَّالث: أن يكون المراد منه أنَّه يغلب على سائر الأديان من جميع الجهات الدِّينيَّة والأخلاقيَّة والأدبيَّة.
الرَّابع: أن يكون المراد منه أنّه لا يُنْسَخ، بخلاف بقيَّة الأديان فإنَّها نُسِخت.
الخامس: أن يكون المراد منه هو ما نحن فيه من عدم صحَّة البيع، ولا يمكن الاستدلال به مع هذه الاحتمالات.
ومن هنا قيل: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
ومنها: أنَّ بيع المصحف مِنَ الكافر يوجب هتكه؛ لعدم مبالاته بالدِّين، وإذا كان يحرم بيع العبد المسلم مِنَ الكافر؛ لأنَّ فيه توهيناً للعبد المسلم، فإنَّ الإهانة للمصحف إهانة لنفس الإسلام.
وفيه: أنَّ بين هتك القرآن وبين بيعه مِنَ الكافر عموماً من وجه، فقد لا يوجب بيعه مِنَ الكافر هتكاً له، كما إذا اشتراه، وجعله في مكان نظيف محترم، وقد يتحقَّق الهتك ولو بدون البيع من الكافر، كما إذا كان تحت يد مسلم لا يبالي بالدِّين وأهله، فيجعله في مكان غير نظيف، وقد يجتمعان، كما إذا اشتراه الكافر، ووضعه في مكان غير نظيف.
وعليه، فلا توجد ملازمة بين بيعه مِنَ الكافر وبين هتكه.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا دليل قويٌّ على حرمة بيع المصحف الشَّريف مِنَ الكافر.
ثمَّ إنَّه لو سلَّمنا الحرمة، إلاَّ أنَّه لا ملازمة بينها، وبين الحرمة الوضعيَّة، فيمكن أن يكون محرَّماً تكليفاً، ويكون البيع صحيحاً غير فاسد.