الدرس 90 _زكاة مال التجارة 3
ثمَّ إنَّه قدِ استُدلّ لعدم اعتبار قصد الاسترباح بالمعاوضة بإطلاق بعض الرِّوايات:
منها: موثقة سماعة «قال: سألتُه عنِ الرَّجل يكون عنده المتاع موضوعاً، فيمكثُ عنده السَّنة والسَّنتَيْن، وأكثر من ذلك، قال: ليس عليه زكاة حتَّى يبيعه، إلاَّ أن يكون أُعطي به رأس ماله، فيمنعه من ذلك التماس الفضل، فإذا هو فعل ذلك وجبت فيه الزَّكاة، وإن لم يكن أُعطي به رأس ماله فليس عليه زكاةٌ حتَّى يبيعه...»([1])، ومضمرات سماعة مقبولة.
وجه الاستدلال: أنها لم تشتمل على التِّجارة، ولا على ما يؤدِّي مؤدَّاها، فتشمل حينئذٍ المعاوضة، وإن لم يُقصد بها الاسترباح.
ولكنَّ الظَّاهر من رأس المال المذكور فيها هو المال الذي عاوض عليه بقصد الاسترباح، لا مطلق ثمن الشَّيء، فلا إطلاق فيها حينئذٍ.
ومنها: حسنة محمَّد بن مسلم «قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ اشترى متاعاً، فكسد عليه متاعه، وقد زكَّى ماله قبل أن يشتري المتاع، متى يُزكِّيه؟ فقال: إن كان أمسك متاعه يبتغي به رأس ماله، فليس عليه زكاة، وإن كان حبسه بعدما يجد رأس ماله فعليه الزَّكاة بعدما أمسكه بعد رأس المال، قال: وسألته عنِ الرَّجل...»([2]).
وفيه: ما قلناه في الموثَّقة من أنَّ المراد برأس المال هو المال الذي عاوض عليه بقصد الاسترباح.
أضف إلى ذلك: أنَّ الظَّاهر من قوله: «اشترى متاعاً فكسد عليه» هو خصوص صورة شرائه بقصد بيعه والاسترباح به.
والخلاصة: أنَّ الأقوى اختصاص زكاة مال التِّجارة بالمال الذي تعلَّقت التِّجارة به بالفعل، بأن بُدِّل بمال آخر بقصد الاكتساب والاسترباح، فيكون المكلَّف بتزكيته هو المال المستعمل في التِّجارة، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويُشترط فيها حَوْل النَّقدين ونصاباهما(1)
(1) يقع الكلام في أمرين:
الأوَّل: في اشتراط النِّصاب في هذه الزَّكاة.
الثَّاني: في اشتراط الحَوْل.
أمَّا الأمر الأوَّل: فهو المعروف بين الأعلام، وفي المدارك: «أمَّا اشتراط بلوغ القيمة النصاب في هذه الزكاة، فقال في المعتبر: «أنَّه قول علماء الإسلام...»، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل عن ظاهر التَّذكرة وغيرها الإجماع عليه، بل عن صريح نهاية الأحكام ذلك، بل في المعتبر ومحكي المنتهى وكشف الالتباس وغيرها أنَّه قول علماء الإسلام...»، وفي الحدائق ومجمع الفائدة: «أنَّه مجمع عليه بين الخاصَّة والعامَّة»، وعن المستند ومفتاح الكرامة «أنَّ الإجماع عليه محقّق معلوم».
أقول: هناك تسالم بين الكلّ على اعتبار النِّصاب في هذه الزَّكاة، بحيث خرجت هذه المسألة عن الإجماع المصطلح عليه، بل هي من بديهيَّات الفِقه، وهذا هو العمدة في المقام.
والمراد به: نصاب أحد النَّقدَيْن، كما هو المعروف بينهم؛ إذ الظَّاهر من الرِّوايات أنَّ هذه الزَّكاة بعينها زكاة النَّقدَيْن، فيُعتبر فيها نصاباهما، ويتساويان في قدر المخرج، وهو ربع العشر، ولا يعتبر نصاب غيرهما من الأموال قطعاً.
وبالجملة، فإنَّ هذه الزَّكاة هي زكاة النَّقدَيْن بعينها، إلاَّ أنَّ الفرق بينهما بالوجوب والندب فقط.
ويظهر من بعض الرِّوايات قيام أعيان مال التِّجارة مقام النَّقد الذي اشتريت به، كما في رواية إسحاق بن عمَّار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «قال: قلتُ له: تسعون ومائة درهم، وتسعة عشر ديناراً، أعليها في الزَّكاة شيءٌ؟ فقال: إذا اجتمع الذَّهب والفِضَّة، فبلغ ذلك مائتي درهم ففيها الزَّكاة؛ لأنَّ عين المال الدَّراهم، وكلُّ ما خلا الدَّراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدَّراهم في الزَّكاة والدِّيّات»([3]).
والشَّاهد هو قوله (عليه السلام) في ذيل الرِّواية: «وكلُّ ما خلا الدَّراهم من ذهب...»، فإنَّه واضح الدَّلالة على ما ذكرناه. ولكنَّ الرِّواية ضعيفة بعدم وثاقة إسماعيل بن مرار، مضافاً إلى أنَّ صدر الرِّواية غيرُ معمولٍ به.
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في اعتبار نصاب أحد النَّقدَيْن.
والعمدة في ذلك هو التَّسالم، مضافاً إلى ظهور بعض الرِّوايات في ذلك.
فما عن صاحب الحدائق (رحمه الله) من الإشكال في اعتبار النِّصاب، مع اعترافه باتِّفاق الخاصَّة والعامَّة عليه؛ نظراً إلى إطلاق الرِّوايات الآمرة بالزَّكاة ليس تامّاً.
ثمَّ إنَّ الظَّاهر من الرِّوايات، وقول الأعلام: أنَّ هذه الزَّكاة كالنَّقدَيْن في النِّصاب الثَّاني، فلا زكاة فيما لا يبلغ النِّصاب الثَّاني بعد النِّصاب الأوَّل.
ولكن عن الشَّهيد الثَّاني في حواشي القواعد الاستشكال في اعتبار النِّصاب الثَّاني، حيث ذكر أنَّه لم يقف على دليل على اعتبار النِّصاب الثَّاني هنا، وأنَّ العامَّة صرَّحوا باعتبار الأوَّل خاصَّة.
والإنصاف: أنَّ هذا الاستشكال ليس تامّاً، ولقد أجاد صاحب المدارك (رحمه الله) حيث أجاب عن ذلك: أنَّ «الدَّليل على اعتبار الأوَّل هو بعينه الدَّليل على اعتبار الثَّاني، والجمهور إنَّما لم يعتبروا النِّصاب الثَّاني هنا لعدم اعتبارهم له في زكاة النَّقدَيْن، كما ذكره في التَّذكرة» انتهى كلام صاحب المدارك (رحمه الله).
الأمر الثَّاني: يُشترط مضيّ الحَوْل عليه من حين التكسُّب، أو من حين قصد التكسُّب، على الخلاف المتقدِّم في اعتبار مقارنة قصد التكسُّب حين التملُّك وعدمه.
قال صاحب المدارك (رحمه الله): «هذا الشَّرط مجمعٌ عليه بين الأصحاب، بل قال المصنِّف في المعتبر أنَّ عليه اتِّفاق علماء الإسلام...»، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسمَيْه عليه...».
وقدِ استُدلّ أيضاً بجملة من الرِّوايات:
منها: حسنة محمَّد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى متاعاً إلى أن قال: قال: وسألته عن الرَّجل تُوضَع عنده الأموالُ يعمل بها، فقال: إذا حال عليها الحَوْل فَلْيزكِّها»([4]).
ومنها: رواية محمَّد بن مسلم «أنّه قال: كلُّ مالٍ عملتَ به، فعليك فيه الزَّكاة إذا حال عليه الحَوْل، قال يونس: تفسير ذلك: أنَّه كلُّ ما عمل للتِّجارة من حيوان وغيره فعليه فيه الزَّكاة»([5])، وهي ضعيفة بعدم وثاقة إسماعيل بن مرار.
مضافاً إلى احتمال أن يكون هذا هو قول محمَّد بن مسلم لا قول الإمام (عليه السلام)، حيث لم ينسبه في هذه الرِّواية إلى الإمام (عليه السلام).
ومنها: حسنة عليِّ بن يقطين بطريق الكلينيّ، وصحيحته بطريق الشَّيخ عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «قال: قلتُ له: إنَّه يجتمع عندي الشَّيء، فيبقى نحواً من سنة، أنزكِّيه؟ فقال: لا، كلُّ ما لم يحلّ عليه الحَوْل فليس عليك فيه زكاة»([6]).
([1]) الوسائل باب 13 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح6.
([2]) الوسائل باب 13 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح3.
([3]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح7.
([4]) الوسائل باب 13 من أبواب ما يجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح3.
([5]) الوسائل باب 13 من أبواب ما يجب فيه الزكاة وما تستحب فيه ح8.
([6]) الوسائل باب 8 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح2.