الدرس 1214 _كتاب الصوم 14
ويدلّ على ذلك: صحيحة أحمد بن محمَّد بن أبي نصر عن أبي الحسن (عليه السلام) «أنَّه سأله عَنِ الرَّجلِ يَحْتقِنْ، تكون به العِلَّة في شهرِ رمضانَ؟ فَقَال: الصَّائمُ لا يجوزُ له أنْ يحتقنَ»[1].
والنَّهي هنا إرشادٌ إلى الفساد. وليس المراد منه النَّهي التَّكليفيّ، أي الحُرمة التَّكليفيّة كما عن جماعة من العلماء حيث حملوا النَّهي على ذلك، أي أنَّ الاحتقان حرام تعبُّداً، وليس بمُفسِد للصَّوم.
ولكنَّك عرفت في ما ذكرناه في أكثر من مناسبة أنَّ النَّهي في العبادة المرُكَّبة يدلّ على الإرشاد للمانعيّة، كما في قوله (ص): «لا تُصلِّ في جلد ما لا يُشرب لبنه ولا يُؤكلُ لَحْمُه»[2]، فإنَّه إرشادٌ إلى فساد الصَّلاة إذا صلَّى في ذلك، وكذا الحال في المعاملات المركَّبة، فإنَّ النَّهي فيها إرشادٌ إلى المانعيّة وفساد المعاملة، كما في قوله (ص): «لا تبعْ ما ليسَ عِنْدك»[3]، فإنَّه إرشادٌ إلى اشتراط الملكيّة في صحَّة البيع، وإلاَّ كان باطلاً.
وبالجملة، فإنَّ النَّهي هنا إرشادٌ إلى مانعيّة الاحتقان للصَّوم؛ لأنَّه عبادة مركَّبة، فإذا احتقن فَسدَ صومه، وقد عرفت أنَّ الظَّاهر من الاحتقان عرفاً هو خصوص المائع.
ولو سُلِّم بالإطلاق فيها، وأنَّ الاحتقان يشمل المائع والجامد، إلاَّ أنَّه لابُدّ من تقييده بالمائع، وإخراج الاحتقان بالجامد، وذلك لموثَّقة الحسن بن فضَّال «قَاْل: كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام): ما تقول في اللُّطف(*) يستدخله الإنسان، وهُوَ صَائمٌ؟ فكتب (عليه السلام): لَاْ بأسَ بالجامدِ»[4].
وفي رواية الشَّيخ (رحمه الله): «في التّلطُّف من الأشياف»، وهي موثَّقة بطريقه (رحمه الله)[5].
ويدلّ أيضاً على جواز الاحتقان بالجامد: صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) «قَاْل: سألتُه عَنِ الرَّجلِ والمرأةِ، هل يصلحُ لهما أنْ يَسْتدخِلا الدَّواء وهُمَا صَائِمَان؟ قَاْل: لَاْ بأسَ»[6].
ولو سُلِّم بشمول هذه الصَّحيحة للمائع، فتكون مُقيَّدةً بصحيحة البزنطيّ المتقدِّمة[7]، حيث عرفت أنَّها ظاهرة في المائع؛ لأنَّ الاحتقان لا يصدق عرفاً على الاحتقان بالجامد.
ثمَّ لا يخفى عليك: أنَّه لا فرق في مُفطِّريّة الاحتقان بالمائع بين حال الاختيار والاضطرار.
نعم، في حال الاضطرار ترتفع الحُرمة التَّكليفيّة، ولا كفَّارة أيضاً. وأمَّا في حال الاختيار، فيحرم تكليفاً ووضعاً، وتجب الكفَّارة أيضاً، والله العالم.
* * *
والارتماس على الأقوى (1)
(1) يقع الكلام في ثلاثة أمورٍ:
الأوَّل: هل الارتماس في الماء مُفطِّرٌ، أم لا؟
الثَّاني: ما المراد بالارتماس؟
الثَّالث: هل حُكْم الارتماس في المائعات وفي الماء المضاف حُكم الارتماس في الماء؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام أنَّ الارتماس في الماء مُتعمِّداً مُفسدٌ للصَّوم.
قال صاحب المدارك (رحمه الله): «اِختلف الأصحاب في حُكم الارتماس في الصَّوم، فذهب الأكثر، ومنهم الشَّيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط، إلى أنَّه مُفسدٌ للصَّوم. وبه قطع المرتضى (رضي الله عنه) في الانتصار، وادَّعى عليه إجماع الفرقة. وقال ابن إدريس: إنَّه مكروه. وحكاه في المُعتبر عن المرتضى أيضاً في مسائل الخلاف. وقال الشَّيخ في الاستبصار: إنَّه محرّمٌ، ولا يُوجب قضاءً ولا كفَّارةً. وهو المُعتمد...»[8].
وممَّنْ ذهب أيضاً إلى أنَّه مُحرّمٌ تكليفاً فقط، ولا يترتَّب عليه فساد الصَّوم، المحقِّق في المُعتبر، والعلاَّمة في المُختلف والمنتهى، والمحقِّق الثَّاني في حاشية الإرشاد، والفخر، والشَّهيد الثَّاني (رحمهم الله)، بل نُسِب إلى أكثر المتأخِّرين.
وعن جملة من الأعلام، منهم السّيِّد المرتضى (رحمه الله) في الانتصار، والشَّيخ (رحمه الله) في النِّهاية والجُمل والاقتصاد، وابن البرَّاج (رحمه الله): أنَّه مُوجبٌ للقضاء والكفَّارة، بل عن الغُنية دعوى الإجماع عليه.
وقدِ استُدلّ للقول بالفساد بجملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: لا يرتمسُ الصَّائم، ولا المُحرِم رأسه في الماء»[9].
ومنها: صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: الصَّائمُ يَسْتنقعُ في الماءِ، ولا يرمسُ رأسَه»[10].
ومنها: صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: لَاْ يرتمسُ المُحرمُ في الماءِ، ولَاْ الصَّائمُ»[11].
ومنها: صحيحة محمَّد بن مُسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) «قَاْل: الصَّائمُ يَسْتنقعُ فِي الماءِ، ويصبُّ على رأسِه، ويتبرَّدُ بالثَّوبِ، وينضحُ بالمروحةِ، وينضحُ البُوريا تحته، ولا يغمسُ رأسَه فِي الماءِ»[12].
ومنها: مرسلة مثنَّى الحنَّاط، والحسن الصَّيقل «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عَنِ الصَّائمِ، يرتمسُ فِي الماءِ؟ قَاْل: لَاْ، ولَاْ المُحرِم، قَاْل: وسألتُه عَنِ الصَّائمِ، أيلبسُ الثَّوب المبلولَ؟ قَاْل: لَاْ»[13].
وهي ضعيفة بسهل بن زياد، وبالإرسال.
ومنها: موثَّقة حنان بن سدير في الفقيه «أنَّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عَنِ الصَّائم يستنقعُ في الماءِ؟ قَاْل: لا بأس، ولكنْ لا ينغمس، والمرأةُ لا تستنقعُ في الماءِ؛ لأنَّها تحمل الماءَ بقُبُلها»[14].
ووجه الاستدلال على فساد الصَّوم بالارتماس في الماء: هو أنَّ النَّهي في هذه الرِّوايات إرشادٌ إلى مانعيّة الارتماس من صحَّة الصَّوم؛ لِما عرفت سابقاً من أنَّ النَّهي عن شيءٍ في العبادة المُركَّبة يدلُّ على الإرشاد إلى المانعيّة.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى الحُرمة التَّكليفيّة فقط، فقدِ استَدلّ بهذه الرِّوايات أيضاً بحمل النَّهي على التَّحريم المحض؛ لأنَّ حقيقة النَّهي التَّحريم.
وفيه: أنَّ هذا الكلام إنَّما يتمّ لو لم يكن النَّهي عن شيءٍ من العبادة المركَّبة أو المعاملة المركَّبة، وإلاَّ فهو ظاهر عرفاً في الحُكم الوضعيّ، أي أنَّه يكون دالاًّ على الإرشاد إلى المانعيّة.
وممَّا يُؤكِّد كون النَّهي للإرشاد إلى المانعيّة: صحيحة محمَّد بن مسلم المتقدِّمة، حيث قال (عليه السلام): «لا يضرُّ الصَّائم ما صَنَعَ إذا اجتنب ثلاث خِصَال: الطَّعامَ والشَّرابَ، والنِّساءَ، والارتماسَ في الماءِ»[15]، فإنَّها ظاهرة جدّاً في كون المراد بالإضرار هو الإضرار بالصَّوم، كما في غيره من المذكورات، كالطَّعام والشَّراب، والنِّساء.
[1] الوسائل باب 5 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح4.
[2] الوسائل باب 2 من أبواب لبس المصلّي ح6.
[3] سنن أبي داود: ج2، ص144، ومسند أحمد: ج3، ص402.
(*) لطَّف الدَّواءُ مِنَ الألم: سكَّنه، وهو كناية عن الحُقْنة.
[4] الوسائل باب 5 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح2.
[5] الوسائل باب 5 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ذيل ح2.
[6] الوسائل باب 5 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح1.
[7] الوسائل باب 5 من أبواب ما يُمسِك عنه الصائم ح4.
[8] المدارك: ج6، ص48.
[9] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح8.
[10] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح7.
[11] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح1.
[12] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح2.
[13] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح4.
[14] الوسائل باب 3 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح6.
[15] الوسائل باب 1 من أبواب ما يُمسِك عنه الصائم ح1.