الدرس180 _لباس المصلي 53
الوجه الثالث: استصحاب عدم اتصاف المشكوك فيه بكونه جزءاً ممَّا لا يُؤْكل الثابت قبل وجوده.
وتوضيحه: أنَّ موضوع الحكم أعني المانعية مؤلَّف من جزءَيْن:
الأوَّل: كون الشيء لباساً، ونحوه من أجزاء الحيوان.
الثاني: اتصافه بكونه جزءاً ممَّا لا يُؤْكل، وقد كنَّا سابقاً - قبل خلق الحيوان على يقينٍ بعدم وجود شيءٍ من الجزءَيْن، وبعد وجود الحيوان تيقنَّا من وجود الجزء الأوَّل.
وأمَّا الجُزء الثاني أعني الاتصاف المزبور : فنشكّ في وجوده، فيُحكم ببقاء العدم على ما كان عليه أوَّلاً، وهو ما يسمَّى باستصحاب العدم الأزلي. فهل يجري استصحاب العدم الأزلي، أم لا؟
وقد ذكرنا هذا البحث بالتفصيل في علم الأصول في مبحث العام والخاص، وقلنا هناك: أنَّ هذه المسألة مهمّة جدّاً يترتّب عليها فوائد عظيمة في كثير من الأبواب الفقهية. وقدِ اختلف الأعلام في ذلك؛ فذهب صاحب الكفاية R إلى جريان الاستصحاب، ووافقه جماعة كثيرة منهم السَّيد الخوئي R، وخالفه جماعة أخرى من الأعلام، فمنعوا جريانه منهم الشَّيخ النائيني R، وهو الصحيح.
وعلى الرغم من استيفائنا لبحث هذه المسألة في علم الأصول كما نوَّهنا آنفاً في مبحث العام والخاص، إلاَّ أنَّه لا بأس بذكرها إجمالاً، ليكون القارِئ على بصيرةٍ من أمره، ثمَّ نطبّقها على ما نحن فيه.
أقول مستعيناً بالله سبحانه وتعالى : إنّ عدم جريان هذا الاستصحاب يتوقّف على بيان عدّة مقدّمات:
المقدمة الأُولى: من المعلوم أنّ لكلِّ موضوعٍ قبل عروض الحكم عليه تقسيمات أوليّة، فالعالِم مثلاً له تقسيمات بلحاظ خصوصيّاته، فهناك العالم الهاشمي وغيره، والعالم النحوي وغيره، وهكذا.
وعليه، فإذا أراد الشّارع في مقام الجعل أن يحكم على موضوع معين، فإمّا أن يلحظ طبيعيّ الموضوع من دون أخذ أيّ خصوصيّة معه وجوداً أو عدماً، فيكون الحكم على الموضوع مطلقاً، وهذا ما يسمَّى بلا بشرط القسمي.
وإمَّا أن يلحظه مقيَّداً بجميع خصوصيّاته أو ببعضها، وهذا ما يسمّى بشرطِ شيء، وإمَّا أن يلحظه مقيَّداً بعدمها، أو عدم بعضها، وهذا ما يسمّى بشرط لا، ولا يعقل الإهمال في مقام الثبوت، للزومه إمَّا الجهل بخصوصيّة ما، أو العجز عن التقييد بها، وكلاهما عليه سبحانه وتعالى محال.
نعم، يمكن الإهمال في مقام الإثبات فيما إذا أراد الشّارع بيان أصل تشريع الحكم، وهذا بحث آخر.
المقدمة الثانية: من المعلوم أنَّ الوجود والعدم تارةً يلحظان بالإضافة إلى الماهية، ويحملان عليها بعد النظر إلى خارج ذاتها وذاتيّاتها، لا بما هي هي، فيسمّيان حينئذٍ وجوداً محموليّاً، وعدما محموليّاً، وبمفاد كان وليس التامّتان، وأخرى يلحظان بلحاظ عروضهما على معروضهما، لا على الماهية، فيسمّيان حينئذٍ وجوداً نعتيّاً، وعدماً نعتيّاً، وبمفاد كان وليس الناقصتان، فيقتضيان في هذه الحالة وجود موضوعهما، لأنّ النعوت أعراض، فكما أنّ العرض يقتضي وجود جوهره، وهو موضوعه الذي يعرض عليه، فكذلك النعت يقتضي وجود منعوته، وهو موضوعه الذي يتصف به.
ومن هنا كان الوجود والعدم النعتيَّان نظيرَيْن للملكة وعدمها المتقوِّمين بموضوعهما، و لذلك صحّ ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما، دون أن يلزم ارتفاع النقيضين المحال، لأنّ العدم النعتي كعدم عِلْم زيد أو عدم الملكة كعدم بصر زيد عدمان خاصّان، لما من شأنه أن يتّصف بالنعت أو الملكة، وليسا عدمَيْن مطلقَيْن، فيصحّ أن يُقال: زيد المعدوم لا عالم ولا غير عالم، ولا بصير ولا أعمى، وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين، إذ يستحيل ارتفاعهما معاً، بأن لا يكون زيد موجوداً، ولا معدوماً.
المقدمة الثالثة: أنّ الموضوع المركب إمّا أن يكون مركباً من جوهرَيْن كما لو كان موضوع وجوب التصدّق مثلاً مركّباً من وجود زيد ووجود عمرو. وإحراز الموضوع المركب تارةً يكون بالوجدان، أو بالتعبّد، أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد وإمَّا أن يكون موضوع العام مركّباً من عرضين، فهنا صورتان:
الصُّورة الأُولى: أن يكونا عرضين لجوهر واحد، كموضوع جواز التقليد المركب من علم زيد، وعدالته مثلاً، فالعلم والعدالة عرضان يعرض كلاهما على جوهر واحد، وهو زيد مثلاً.
الصُّورة الثانية: أن يكونا عرضين لجوهرين كموضوع الإرث المركب من موت المورث وإسلام الوارث، فالموت والإسلام عرضان، يعرض الأوَّل منهما على جوهر وهو المورِّث، ويعرض الثاني على جوهر آخر وهو الوارث وإمَّا أن يكون موضوع العام مركَّباً من جوهر وعرض.
وعليه، فإمّا أن يكون هذا العرض لجوهر آخر كما لو كان الموضوع مركّباً من وجود زيد وقيام عمرو وإمّا أن يكون هذا العرض للجوهر نفسه، كما لو كان الموضوع مركّبا من وجود زيد وعدالته.
وعليه، ففي هذه الحالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي لا محالة، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه، وصفة له.