الدرس 170 _ المقصد الأول في الاوامر 102
هذا والغريب في الأمر ما ذكره السيد أبو القاسم الخوئي R من أنّه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، ولا استحالة فيه أصلاً؛ فمقتضى البياض مثلاً إنّما يقتضيه في نفسه سواء كان هناك مقتضى للسواد أم لم يكن، كما أنّ مقتضي السواد إنّما يقتضيه كذلك، وإمكان هذا واضح، والمستحيل إنّما هو ثبوت المقتضي لكلّ من الضدين بقيد التقارن والاجتماع لا في نفسه.
وجه الغرابة: أنّه ليس الكلام في إمكان ثبوت المقتضي لكلّ من الضدين في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر، وإلا لو كان الأمر كذلك لانتفى إشكال ثبوت كل من الضدين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، وإنّما الكلام في إمكان ثبوت المقتضي لكلّ من الضدين في حال وجود المقتضي الآخر، كما لا يخفى، وقد عرفت استحالة ذلك بما لا مزيد عليه.
ثمّ إنّ المحقق الخونساري ذكر أنّه قد يستحيل وجود المقتضي لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به وتعلقها بالآخر.
وتوضيحه: إنّ إرادة المكلف لمّا كانت ممكنة الوجود؛ أي تحتاج إلى علة لوجودها، فإن وجدت وُجِدت وإلا فلا، ولمّا كان كلّ ما بالعرض يرجع إلى ما بالذات، فسلسلة الإرادات الممكنة لا بدّ أن ترجع في النهاية إلى إرادة الغنيّ بذاته الذي لا يحتاج إلى علة، وهو الحق Y. فإذا لم يرد زيد الإزالة مثلاً، فمرجع ذلك إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية بوجودها.
ومهما يكن، فقد عرفت وجه استحالة اجتماع المقتضيين، وأمّا ما ذكره من كون الإرادة أزلية، فقد ذكرنا سابقاً أن إرادتهLليست من صفاته الذاتية لتكون أزلية بأزلية ذاته المقدّسة، وإنّما هي صفة فعلية حادثة؛ وتدل عليه صحيحة عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله N قال: «قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد»( ).
ثمّ يذكر صاحب الكفاية إشكال المحقق على نفسه على رده المتقدم؛ حيث قال: «إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، وأمّا إذا كان كل منهما متعلَّقاً لإرادة شخص، فأراد مثلاً أحد الشخصين حركة شيء، وأراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذٍ موجوداً، فالعدم لا محالة يكون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع».
يقول: صحيح أنّ إشكال الدور مرتفع باختلاف جهة التوقف، إلا أنّ هذا الرد نافع فيما لو كان المقتضي من شخص واحد يريد الصلاة أو الإزالة، أمّا لو كان من شخصين؛ كما لو أراد زيد تحريك شيء، وأراد عمرو سكونه، فهنا إن وجدت الحركة دون السكون، فيكون سبب امتناع السكون راجعاً إلى وجود المانع، وهو الحركة، لا إلى غياب المقتضي فعلاً، فإنّ مقتضي الحركة والسكون مجتمعان فعلاً، وهما إرادة زيد الحركة وإرادة عمرو السكون.
وفيه: أنّ هذا الإشكال ليس بوارد؛ لأنّ سبب امتناع السكون راجع إلى غلبة قدرة زيد على قدرة عمرو؛ أي إلى عدم الشرط بالنسبة إلى السكون، وبالتالي لا يمكن إسناد المانعية إلى شيء والحال أنّ الشرط مفقود؛ لما تقدّم من أنّ الشرط متقدم رتبة على عدم المانع، فما لم يوجد الشرط لا يمكن إسناد المانعية لشيء وإن وجِد المقتضي.
والإنصاف: أنّ كلام المحقق الخونساري متين في نفسه ولا غبار عليه، ولكن ما دفع به الدور يهدم أساس المقدمية؛ لأنّ امتناع اجتماع المقتضيين يوجب أن لا يكون وجود أحد الضدين مانعاً لوجود الآخر، فلا يكون عدمه من أجزاء علّة وجوده، فلا يجتمع القول بالمقدمية مع القول بامتناع اجتماع المقتضيين.
ثمّ قال صاحب الكفاية R: «وما قيل:... غير سديد، فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلا أنّه غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفا عليه الشيء موقوفا عليه، ضرورة أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند إليه، لما كاد يصح أن يستند فعلاً إليه».
يقول: إنّ جواب الخونساري المفرِّق بين التوقّف الفعلي والتقديري وإن كان رافعاً للدور، ولكنّه لا يرفع ملاكه، وهو توقّف الشيء على نفسه وبالتالي اجتماع النقيضين؛ لأنّه لو قُدِّر وجود المقتضي والشرط لعدم الصلاة لكانت الإزالة مانعة، وعليه تكون الإزالة متقدمة على عدم الصلاة، والفرض أنّها متأخّرة عنه؛ لأنّ الإزالة متوقفة على عدم الصلاة، فعدم الصلاة عدم مانع للإزالة، فتكون الإزالة متقدمة على عدم الصلاة لتوقّفه عليها، ومتأخرة عنه لتوقفها عليه، فيتحقق ملاك الدور، وهو توقف الشيء على نفسه.
وفيه: أنّ قضية (لو كان المقتضي والشرط لعدم الصلاة موجودين لكانت الإزالة مانعة) هي قضية شرطية صحيحة، ولكن صحّتها تتوقف على صحة الملازمة بين مقدمها وتاليها، وهي كذلك، ولا تتوقّف على صدقهما، فهي تصدق ولو كان طرفاها كاذبين، بل لو كانا مستحيلين؛ كما في قولهL: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون »( )، فإنّ هذه القضية صحيحة مع أنّ طرفيها مستحيلان، وهو تعدّد الآلهة وفساد العالم، وعليه فلا يلزم من صدق القضية في قولك: (لو كان المقتضي والشرط لعدم الصلاة موجودين لكانت الإزالة مانعة) صدقُ طرفيها، وهو وجود المقتضي والشرط، وكون الإزالة مانعة، بل قد عرفت استحالة وجود المقتضي. وبما أنّ مانعية الإزالة متوقفة على ثبوت المقتضي ومعلّقة عليه، وهو مستحيل، فيكون المعلّق على المستحيل مستحيلاً.
وبعبارة أخرى: إنّ إسناد المانعية للإزالة متوقف على وجود المقتضي لعدم الصلاة مع مقتضي الإزالة، وهو محال، والمتوقف على المحال محال، فمانعية الإزالة محالة، فتكون النتيجة حينئذٍ أنّ ملاك الدور مرتفع.
والخلاصة إلى هنا: إنّ ما ذكره بعض الأعلام من أنّ عدم أحد الضدين مقدّمة للضد الآخر في غير محلّه؛ وذلك لما عرفت من اتحاد رتبتهما؛ فإنّ عدم أحد الضدين في رتبة الضد الآخر على ما تقدم بيانه فلا يصح أن يكون مقدمة له. وأمّا لزوم الدور، فقد عرفت جوابه.