الدرس 101 _ المقصد الأول في الاوامر 33
دلالة الآيات على الفورية:
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية. وفيه منع، ضرورة أنَّ سياق آية «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾([1])، وكذا آية « فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾([2])، إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أنَّ تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى. مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة، فيكون الأمر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية، فافهم».
بعد أن أثبتنا أنَّه لا دلالة للأمر سواء بهيئته أم بمادته على أي من الفور والتراخي، ذكر صاحب الكفاية دعوى البعض دلالة غير واحد من الآيات على الفورية؛ كقوله تعالى : «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ»، وكذا قوله سبحانه وتعالى : «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ».
ووجه الاستدلال: أوّلاً: إنَّ المراد من (المغفرة) هي أسبابها؛ لبداهة أنَّ المغفرة بيد المولى، فهي خارجة عن اختيار المكلف، وبالتالي لا يمكن تعلّق التكليف بها، وإنَّما يتعلّق التكليف بالأسباب الموجبة لها، ومن أعظمها الواجبات.
ثانياً: إنَّ معنى الإسراع والاستباق ليس سوى المبادرة إلى متعلقهما، وهذه المبادرة على نحو الوجوب لظهور صيغة الأمر فيه. وعليه، يكون معنى الآيتين: بادروا فوراً إلى الواجبات.
هذا أقصى ما يمكن أن يقال في الاستدلال على الفورية بهاتين الآيتين، وقد أجيب عنه بعدّة أجوبة، منها:
الجواب الأوّل: إن كانت الآيتان دالّتين على الوجوب لكان الأنسب في الدلالة عليه التحذير بالغضب والشرّ من مغبّة الترك حتى يرتدع المكلف ويبادر إلى الامتثال فوراً.
هذا الجواب لصاحب الكفاية، ولم يقبله جلّ الأعلام وكثير من طلابه؛ إذ كثيرة هي الواجبات التي لم يحذر المولى من مغبّة تركها، كما أنَّه كثيرة هي المحرّمات التي لم يحذّر المولى من مغبة اجتراحها.
ثمَّ إنَّه لا ملازمة بين وجوب شيء والتحذير من تركه؛ إذ قد يمتثل المكلف بداعي الطمع بالثواب لا بداعي الخوف من العقاب.
الجواب الثاني: إن كانت الآيتان دالتين على وجوب المبادرة فوراً إلى أسباب المغفرة وإلى الخيرات، للزم تخصيص الأكثر المستهجن؛ لأنَّ أغلب الواجبات لا تجب المبادرة إليها سوى ما ندر؛ من قبيل ردّ التحية ووفاء الدين ونحوهما، وكذا المستحبات جميعاً لا تجب المبادرة إليها.
الجواب الثالث: إنَّ كلاًّ من مادة المسارعة والاستباق تقتضي سعة المغفرة والخير؛ بحيث لو لم يسارع كان الفعل أيضاً مغفرة وخيراً، وإلا لم يكن الإتيان به في الزمن الأوّل مسارعة إلى المغفرة واستباقاً إلى الخيرات.
الجواب الرابع: إنَّ معنى الاستباق إلى الخيرات قد فُسّر بأنَّه حثّ للمكلفين على التنافس في إدراك الخير والوصول إليه؛ والسر فيه أنَّ كلمة (استبقوا) من الاستباق، وهي بمعنى المسابقة لغة؛ أي إنَّ الواجب على كلّ أحد من الناس أن يسابق الآخر، وهذا لا ربط له بما نحن فيه؛ لأنَّ الكلام هنا إنّما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه خاصة مع قطع النظر عن الأمر المتوجّه إلى غيره، وهذا بخلاف الآية الشريفة؛ فإنَّ وجوب الاستباق فيها إنَّما هو بالإضافة إلى الآخر، لا بالإضافة إلى الفعل.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ هذا الجواب إنَّما ينفع بالنسبة لآية «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ»، وأما آية «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ»، فتبقى على ما هي عليه.
الجواب الخامس: وهو من أحسن الأجوبة، ومفاده: إنَّه كما أنَّ العقل أدرك حسن الطاعة، أدرك حسن المسابقة والمسارعة إليها أيضاً، وبالتالي يكون الأمر في هاتين الآيتين المباركتين إرشادياً لما حكم به العقل، والأمر الإرشادي لا يستتبع حكماً تكليفياً؛ إذ هو إرشاد لما في المأمور به من مصلحة. وعليه، لا أمر مولوي ليقال أنَّه دالّ على الوجوب.
ثمرة دلالة الصيغة على الفور:
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «تتمة: بناء على القول بالفور، فهل قضية الأمر الإتيان فوراً ففوراً، بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فوراً أيضاً، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان: مبنيان على أنَّ مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا يخفى أنَّه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيداً».
حاصل تتمة هذا المبحث: إنَّه بناءً على دلالة الأمر على الفورية، إذا لم يبادر المكلّف إلى الفعل في أوّل أزمنة الإمكان، فعلى القول بوحدة المطلوب يلزم سقوط الأمر، وأمّا على القول بتعدّده، فهل يلزم وجوب المبادرة إلى المأمور به في الزمن الثاني، أم يصبح الوجوب موسّعاً؟
هكذا ينبغي أن تقسَّم المسألة، فوجوب الإتيان بالمأمور به عند عدم الإتيان به في الزمن الأوّل فوراً ففوراً، أو أنَّه لا يجب الفور إلا في الزمن الأوّل، متفرّعان على القول بتعدّد المطلوب، لا على النـزاع في استفادة تعدد المطلوب ووحدته من الأمر، كما هو ظاهر كلام صاحب الكفاية.
الإنصاف: أنَّه مع ترك المبادرة إلى الفعل في أوّل أزمنة الإمكان لا يسقط الأمر؛ لأنَّه من جهة لا دليل على أنَّ المطلوب مقيّد بالفورية، وعليه لا يسقط بفواتها. ومن جهة أخرى لا دلالة للأمر على وحدة المطلوب. ويترتّب على ذلك وجوب الإتيان بالفعل بعد ذلك فوراً؛ إذ كما أنَّ نفس الفعل لم يسقط بترك المبادرة إليه، كذلك الفورية لا تسقط بتركها في أوّل أزمنة الإمكان، وإنَّما الساقط منها مرتبة من الفورية.
وبالجملة، فيكون في ترك الفورية تفويت لمرتبة من مراتب الأمر، وهي أوّل مرتبة ممكنة، فلا تسقط المراتب الأخرى.
وما يهوِّن الخطب أنَّ الأمر لا يدلّ على الفورية بنفسه ولا بغيره. نعم، قد تجب الفورية أحياناً مع قيام القرينة عليها، كما لو قامت قرينة قطعية على عدم تمكّنه من الإتيان بالواجب في الزمن اللاحق إذا لم يأتِ به في الزمن الأوّل، فإنَّه حينئذٍ يحكم العقل بوجوب المبادرة إلى الإتيان بالواجب في الزمن الأوّل؛ بحيث لو لم يأتِ به وفات منه الواجب لعدم تمكّنه منه فيما بعد، يستحق عليه العقوبة.
وكذلك الحال لو اطمأنّ بالفوت في الزمن اللاحق، فإنَّه يجب عليه الإتيان به في أوّل أزمنة الإمكان، والله العالم.
([1]) سورة آل عمران، الآية: 133.
([2]) سورة المائدة، الآية: 48.