الدرس 78 _ المقصد الأول في الاوامر 10
القضاء والقدر:
نظراً لارتباط مبحث الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين بالقضاء والقدر، نتطرق إلى الكلام عن معناهما وأقسامهما. نقول: إنَّ هناك شبهة عند معظم الناس أنَّ لازم القول بالقضاء والقدر هو القول بالجبر، من هنا نجدهم يعبّرون عن الأمر الذي لا يملكون فيه الاختيار أنَّه (أمر مقدَّر)، ويعنون بذلك أنَّهم مقهورون عليه، فهو خارج عن إرادتهم، وحتمي في حقهم، ولا حيلة لهم فيه.
والحق أنَّ هذا الكلام صحيح بالنسبة لثاني قسمي القضاء والقدر، فإنَّهما على قسمين:
القسم الأوّل: يكون فيه القضاء والقدر اختياريّين؛ أي معلَّقين على اختيار الإنسان ومشيئته، ومن هنا ورد أنَّ الحلال والحرام مقسومان من الله؛ بمعنى أنَّ الله يقدّر للإنسان الحلال إذا اختاره، ويقدّر له الحرام إذا اختاره، لا أنَّه يجبرهم على اختيار أحدهما؛ فإنَّه تعالى àعلمه الأزلي يعلم مختاري، فيقدّره لي.
وممّا يدلّ على ذلك رواية سهل بن زياد وإسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه، قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثمَّ قال له: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ فقال له: مه يا شيخ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟! فقال له: وتظن أنَّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنَّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن...»([1]).
وكذا ممّا يدلّ على هذا القسم ما روي: «أنّ علياً (عليه السلام) مرَّ يوماً على تحت حائط مائل، فأسرع في المشي، فقيل له: أتفرّ يا أمير المؤمنين من قضاء الله تعالى ؟! فقال (عليه السلام): نعم أفرّ من قضاء الله إلى قدره»([2]).
يفهم من هذا الخبر وأمثاله أنَّ القضاء من الله تعالى ûخصّ من التقدير؛ لأنَّه الفصل بين المقدرات، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع؛ فقوله (عليه السلام): «أفرّ من قضاء الله إلى قدره» تنبيه على أنَّ القدر ما لم يكن قضاءً، فمرجو أن يدفعه الله تعالى ، فإذا قضى، فلا مدفع له؛ ويشهد له قوله تعالى : «وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا».
القسم الثاني: يكون فيه القضاء والقدر محتومين غير اختياريين؛ مثل الآجال، وكذا الغنى والفقر. وهذا القسم هو ما يظهر من القرآن الكريم؛ قال تعالى: «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا». وبالجملة، فإنَّ الغنى أمر اختياري، ولا ينافيه كونه من القضاء والقدر المتيقَّن؛ لأنَّ المراد أنَّ الكسب اختياري، أمَّا حصول الغنى والفقر، فهما قهريان غير اختياريين، فكم من مستفحل في طلب الرزق قدِّر له الفقر، وكم عاجز عن الطلب قدِّر له الثراء والغنى. وهكذا تبيّن أنَّ شبهة الجبر نشأت من توهّم أنَّ القضاء والقدر قسم واحد، وهو القسم الثاني.
وأمّا ما ورد في حسنة حماد بن عثمان عنه (عليه السلام): «إنَّ الدعاء يردّ القضاء، ينقضه كما يُنقض السلك وقد أُبرم إبراما»([3])، فهي بإطلاقها تشمل كلا قسمي القضاء والقدر.
وهم ودفع: قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «وهم ودفع: لعلك تقول: إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، لزم بناء على أن تكون عين الطلب كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان. لكنك غفلت عن أنَّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت أنَّ المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): «وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه»([4])».
حاصل هذا الوهم: إنَّه بناءً على القول باتحاد الطلب والإرادة، إذا أنشأ المولى طلباً، لكان متّحداً مع إرادته التشريعية التي هي عبارة عن علمه تعالى àصلاح الفعل، وعليه يكون المنشأ هو العلم، وهو باطل وجداناً.
نعم، الذي يرد عليه ما ذكره سابقاً من أنَّ الطلب الإنشائي عين الإرادة الإنشائية، فإذا كان المنشأ مفهوم الطلب، فمرجعه حينئذٍ إلى أنَّ المنشأ مفهوم الإرادة.
ولا يخفى عليك أنَّه لا معنى أصلاً للإرادة الإنشائية؛ لأنَّ الإرادة من الكيفيّات النفسانية غير القابلة للإنشاء؛ لأنَّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد، والإرادة غير قابلة لذلك. ثمَّ إنَّه مع قطع النظر عن ذلك، فإنَّ قوله: «وقد عرفت أنَّ المنشأ ليس إلا المفهوم» لا يخلو من ركاكة؛ لأنَّ المنشأ ليس هو المفهوم بما هو مفهوم، بل المفهوم الحاكي عن الأفراد، وإلا فلا معنى لإنشاء مفهوم الطلب.
وقد دفع صاحب الكفاية هذا الوهم بتبيان أنَّ منشأه هو الخلط بين مفهوم الإرادة ومصداقها، فإنَّما يتّحد الطلب والإرادة خارجاً لا مفهوماً، والذي أنشأه المولى مفهوم الطلب، فلا يلزم الإشكال.
ثمَّ إنَّه لا غرو في اتحاد الإرادة مع العلم خارجاً وتغايرهما مفهوما، بل هذا حاصل في جميع صفاته تعالى ؛ إذ تقدم أنَّ صفاته عين ذاته المقدسة، فهي متّحدة معها خارجاً، وإن كانت مغايرة لها مفهوماً، وهذا هو مراد أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ حيث قال: «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنَّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنَّه غير الصفة، فمن وصف الله (سبحانه) فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهل به»؛ إذ من المعلوم أنَّ الذات المقدّسة بسيطة حقيقية ليست فيها جهات متكثرة، والبساطة الحقيقية تتوقّف على نفي الصفات عنه؛ إذ بدون ذلك يصير مقروناً بشيء، ومن قرنه بغيره فقد جعل له ثانياً في الوجود، وهو باطل؛ فالتوحيد الصحيح أن لا يعتبر معه غيره مطلقاً.
([1]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ج1، ص155، ح1.
([2]) عوالي اللآلئ ج4، ص110، ح169.
([3]) الكافي باب أنَّ الدعاء يرد البلاء والقضاء ج2، ص469، ح1.
([4]) نهج البلاغة ج1، ص15.