الدرس 124_ التكسّب الحرام وأقسامه (119). خامسها: تعلَّق حقّ غير البائع به
ثمَّ إنَّه بقي الكلام أخيراً في حكم الجائر نفسه، أي ما هي وظيفته بالنسبة للأموال التي أخذها من النَّاس ظلماً وعدواناً.
أقول: وظيفته في ذلك هو أنَّ ما أخذه من النَّاس ظلماً وعدواناً يجب عليه أن يردَّه إليهم فوراً، وكلُّ ما أتلفه من أموال النَّاس، فيستقرُّ في ذمَّته، ويكون ذلك من جملة ديونه، نظير ما يستقرُّ في ذمَّته بقرض أو ثمن مبيع أو صداق، أو غيرها.
ومقتضى القاعدة كونها كذلك بعد موته، فيُقدَّم جميع ذلك على الإرث والوصية، ويخرج من أصل التَّركة؛ لقوله تعالى: « مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ ]النساء: 11[.
وخالف في ذلك الشَّيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله)، فذهب إلى أنَّ ما في يده مِنَ المظالم تالفاً لا يلحقه حكم الدُّيون في التَّقديم على الوصايا إلى المواريث، وذلك لأمرَيْن:
الأوَّل: هو عدم انصراف الدَّين إليه، وإنْ كان منه.
وعليه، فيبقى عموم الوصية والميراث على حاله.
الثَّاني: السِّيرة المأخوذة يداً بيد من مبدأ الإسلام إلى يومنا هذا، فإنَّها قائمة على أنَّ الضَّمانات الثَّابتة في أمثال المقام لا تخرج من أصل التَّركة.
فعلى هذا، فلو أوصى بها بعد التَّلف أُخْرِجت مِنَ الثُّلث، وإلاَّ بقي مشغول الذِّمَّة به إلى يوم القيامة.
وفيه أوَّلاً: أنَّه لم يوافقه أحد على ذلك.
وثانياً: ما ذكره الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله) وغيره من الأعلام.
وحاصله: أنَّ عدم انصراف الدَّين إليه ممنوع، فإنَّا لا نجد فرقاً بعد مراجعة العرف بين ما أتلفه هذا الظَّالم عدواناً وبين ما أتلفه نسياناً، ولا بين ما أتلفه هذا الظاَّلم عدواناً وبين ما أتلفه شخص آخر من غير الظَّلمة، مع أنَّه لا إشكال في جريان أحكام الدَّين عليه في حال حياته من جواز المقاصَّة من ماله كما هو المنصوص.
وأمّا ما ادَّعاه مِنَ السِّيرة، فإنَّه ناشئ من قلَّة مبالاة النَّاس، كما هو ديدنهم في أكثر السِّير التي استمروا عليها، ولذا لا يفرِّقون في ذلك بين الظَّلمة وغيرهم ممَّن علموا باشتغال ذمَّته بحقوق النَّاس من جهة حقِّ السَّادة والفقراء، أو من جهة العلم بفساد أكثر معاملاته.
وبالجملة، فالتَّمسُّك بالسِّيرة المذكورة أوهن من دعوى عدم انصراف الدَّين إليه، فالخروج بها عَنِ القواعد المنصوصة المجتمع عليها بين الأعلام، في غير محلِّه.
والإنصاف: أنَّ ما ذكره الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله)، وغيره من الأعلام، ردّاً على كلام كاشف الغطاء (رحمه الله)، في غاية الصِّحَّة والمتانة، والله العالم بحقائق أحكامه.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتَرْك أَخْذ ذلك مِنَ الظَّالم مع الاختيار أفضل، ولا يعارضه أخذ الحسنَيْن (عليهما السلام) جوائز معاوية؛ لأنَّ ذلك من حقوقهم بالأصالة. (انتهى كلامه) (1)
(1) ذكر جماعة من الأعلام أنَّه يكره أخذ الجائزة مِنَ الجائر، وقد يستدلُّ له بجملة مِنَ الأدلَّة:
منها: ما عَنِ المنتهى، من احتمال أن يكون المأخوذ حراماً واقعاً، وإنْ جاز الأخذ ظاهراً.
وفيه: ما لا يخفى، فإنَّه لو كان ذلك موجباً للكراهة لَجَاء هذا الاحتمال في الأموال التي تُؤخَذ مِنَ المؤمنين الأتقياء، إذ يحتمل واقعاً أن تكون حراماً.
ومنها: جملة مِنَ الرِّوايات الدَّالَّة على حُسْن الاحتياط، كمرسلة الشَّهيد في الذِّكْرَى «قال: قال النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله): دَعْ ما يُرِيبُك إلى مَاْ لا يُرِيبُك»[1] ، وهي ضعيفة بالإرسال.
ورواية أبي سعيد الزُّهري عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: الوقوفُ عند الشُّبهةِ خَيْرٌ مِنَ الاقتحام في الهَلَكة...»[2]f30، وهي ضعيفة بجهالة أبي سعيد الزُّهري.
ورواية عمر بن حَنْظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث «إلى أن قال: فمَنْ تَرَك الشُّبُهات نجا مِنَ المُحرَّمَات...»[3]f31، وهي ضعيفة بعدم وثاقة عمر بن حنظلة، وكذا غيرها مِنَ الرِّوايات.
وفيه مضافاً إلى ضعفها سنداً : أنَّها لا تدلُّ على الكراهة؛ لأننا لا ندري هل المراد مِنَ الرّيب والشُّبهة، هو الرَّيب والشُّبهة في الحكم الظَّاهري بمعنى أنَّ الواقعة غير معلومة في الظَّاهر، فضلاً عن كونها غير معلومة الحكم الواقعيِّ أم الحكم الواقعيِّ؟
فإن كان المراد الرَّيب والشُّبهة في الحكم الظاهري، فيرد عليه: أنَّ الحكم الظَّاهري في هذه المسألة هو الجواز، كما تقدَّم.
وإن كان المراد الريب والشُّبهة في الحكم الواقعيِّ، وإنْ كان الحكم الظَّاهري معلوم الجواز، فيرد عليه: أنَّ هذا الاحتمال وارد في أموال المؤمنين الأتقياء؛ لاحتمال وجود الحرام الواقعيِّ في أموالهم، فتحصل الشُّبهة من هذه الجهة، فيلزم على ذلك الحكم بكراهة ما يُؤخَذ من أموالهم.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل ليس تامّاً.
ومنها: حسنة أبي بصير «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَا، وَلَا مَدَّةً قَلَم؛ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَايُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئاً إِلاَّ أَصَابُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ، أَوْ (قَالَ): حَتّى يُصِيبُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ الْوَهْمُ مِنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ »[4]f32.
وفيه: أنَّ الظاهر من هذه الحسنة هو التخويف من أنْ يصبح من أعوان الظلمة، ولا دلالة لها على كراهة مجرد الأخذ إذا اطمأن بأنّه لا يكون من أعوانهم.