الدرس284 _القِبلة 12
نعم، قد يظهر من قول الشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط أنّه مع فَقْد الأمارات السماويّة لا يجوز العمل بالظنّ، بل يصلِّي إلى أربع جهات مع الإمكان، ومع عدمه يصلِّي إلى جهة واحدة، ويرد عليهما أنّ ما ذكراه مخالِف لصحيح زرارة قال: «قال أبو جعفر N: يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يُعلم أين وجه القِبلة»[i]f138.
وموثَّق سُماعة «قال: سألتُه عن الصَّلاة بالليل والنَّهار إذا لم يرَ الشَّمس، ولا القمر، ولا النجوم، قال: اجتهد رأيك، وتعمّد القِبلة جهدك»[ii]f139، بناءً على ظهوره في الاجتهاد في القِبلة، لا في الوقت، ضرورة صدق التحري والاجتهاد على مطلق الظنّ.
وقد عرفت في أكثر من مناسبة أنّ مضمرات سُماعة مقبولة. ولا تعارضهما رواية خرّاش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله N «قال: قلتُ: جعلت فداك! إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا أطبقت علينا، أو أظلمت، فلم نعرف السَّماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه»[iii]f140.
وجه المعارضة: أنّها دالّة على الصّلاة إلى أربع جهات، حتّى مع التمكّن من الاجتهاد، وتحصيل الظنّ.
ولكنَّ الإنصاف: أنّ هذه الرّواية لا تعارض الأدلّة المتقدمة، وذلك أولاً لضعفها سندا بالإرسال، وعدم وثاقة خراش.
وثانياً: يحتمل قويّاً أن يكون المقصود بالاجتهاد فيها الفتوى بالرأي المؤدّي إلى سقوط شرطية القِبلة في مثل الفرض والاكتفاء بصلاة واحدة، لا الاجتهاد في تشخيص القِبلة حتّى تعارض الأدلّة المتقدّمة، بقرينة قوله: «أطبقت علينا أي (السَّماء) وأظلمت» فهما ظاهران في عدم وجود أمارة يظنّ منها القِبلة.
وثالثاً: أنّ المشهور أعرض عن هذه الرّواية، وإعراض المشهور، وإن لم يكن حجّةً عندنا، إلاّ أنّه صالح للتأييد.
والخلاصة: أنَّ الأقوى في المقام هو تقديم الاجتهاد على وجوب الصّلاة إلى الجهات الأربع.
(1) أي: التقليد، والصّلاة إلى الجهات الأربع، قال المصنّف R في الذكرى: «ولو خفيت الأمارات على المجتهد للغيم وشبهه، أو تعارضت عنده، فتحيّر، احتمل جواز التقليد أيضاً، لعجزه عن تحصيل الجهة، فهو كالعاجز عن الاجتهاد، واختاره في المختلف، والظّاهر وجوب الأربع، لأنَّ القدرة على أصل الاجتهاد حاصلة، والعارض سريع الزَّوال...».
أقول: قد عرفت أنَّ التقليد، الذي هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد هو نوع من الاجتهاد أيضاً، لأنّ الظنّ الحاصل منه يصدق عليه التحري.
ودعوى أنَّ أدلَّة الاجتهاد منصرفة عن مثله. غير مسموعة.
وعليه، فمسألة ما لو خفيت عليه الأمارات هي نفسها مسألة ما لو فَقْد العلم، والظنّ فحكمها واحد.
والمعروف بين الأعلام هو أنّه إذا كان الوقت واسعاً صلَّى الصَّلاة الواحدة إلى الجهات الأربع، لكلّ جهة مرّة، وفي الجواهر: «على المشهور بين الأصحاب، نقلاً وتحصيلاً، بين القدماء والمتأخّرين شهرة عظيمة، بل في صريح الغنية وظاهر جامع المقاصد والتذكرة، وموضع من الذكرى، والمحكي عن المعتبر والمنتهى والغرية، الإجماع عليه...».
وفي الحدائق: «نقل عن ابن أبي عقيل أنّه قال: (لو خفيت عليه القِبلة لغيمٍ أو ريحٍ أو ظلمةٍ، فلم يقدر على القِبلة، صلَّى حيث شاء، مستقبل القِبلة، وغير مستقبلها، ولا إعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها أنّه صلَّى لغير القِبلة ثمَّ قال: وهو الظاهر من ابن بابويه، ونفى عنه البُعد في المختلف، ومال إليه في الذكرى، واختاره جملة من محقِّقي متأخِّري المتأخِّرين، وهو المختار لِمَا ستعرف من الأخبار».
واختاره أيضاً السَّيد محسن الحكيم R، والسَّيد أبو القاسم الخوئي R، وهو الإنصاف، كما سيتضح لك.
وعن السَّيد ابن طاووس R في أمان الأخطار: «الرجوع إلى القرعة»، هذه هي الأقوال في المسألة.
وقدِ استُدلّ للمشهور بعدَّة أدلَّة:
منها: الإجماع المتقدِّم، المؤيَّد بالشُّهرة العظيمة.
وفيه كما ذكرنا في أكثر من مناسبة : أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجة.
ومنها: رواية خراش المتقدِّمة[iv]f141، وقد عرفت أنَّها ضعيفة سنداً، ودلالةً.
ومنها: مرسلة الكافي «قال: ورُوي أيضاً أنّه يصلِّي إلى أربع جوانب»[v]f142، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: مرسلة الشَّيخ الصَّدوق R في الفقيه «قال: روي فيمَنْ لا يهتدي إلى القِبلة في مفازة أنّه يصلِّي إلى أربعة جوانب»[vi]f143، وهي أيضاً ضعيفة بالإرسال.
وفي الجواهر: «بل الظَّاهر كونهما أي: مرسلة الكافي، ومرسلة الفقيه صحيحين عندهما، خصوصاً الثاني منها أي: مرسلة الفقيه الذي لا يذْكُر في كتابه إلاَّ ما هو حجة بينه وبين ربِّه.
ومن هنا استظهر بعض الأساطين منهما التخيير لروايتهما الروايتين، وعلى كلِّ حال فلا ريب في حجيّة الجميع في المقام، وأنّه لا يقدح الإرسال بعد الانجبار بما سمعت...».
وفيه: أنّه لا يكفي كونهما صحيحين عندهما، بل لا بدّ من ثبوت الصحّة عند غيرهما، وهي غير ثابتة. كما أنَّك عرفت في أكثر من مناسبة أنَّ عمل المشهور لا يجبر ضعف السَّند.
أضف إلى ذلك، أنَّه لم تحرز الصّغرى، إذ لعلّ الصّلاة إلى أربع جهات لأجل أنّ ذلك موافق لقاعدة الاحتياط، لا لأجل النصوص المزبورة.
ومنها: وهو الدليل الأخير لهم؛ قاعدة الاشتغال، فإنّه لا يحصل القطع بالخروج عن عهدة التكليف بالصَّلاة المشروطة بالاستقبال إلاَّ بالصَّلاة إلى الجهات الأربع.
وفيه: أنّ ذلك يتمّ لو لم يوجد دليل على الاكتفاء بالصَّلاة إلى الجهة الواحدة، وهو موجود كما سيتضح لك.
والخُلاصة إلى هنا: أنّ ما ذُكِر للمشهور من الأدلة ليس بتامّ.