الدرس 19 _ التكسّب الحرام وأقسامه (14). أحدها: ما حرم لعينه: عمل الصُّوَر المجسَّمة.
[الخلاصة]
* في التكسّب وأقسامه.
* الكلام في: القسم الأوَّل من الأقسام السِّتة، وهو ما حرم لعينه: منها: عمل الصُّوَر المجسَّمة، وغير المجسَّمة.
* بقي عندنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها: التنبيه الأوَّل: هل يحرم تصوير الملك والجِنّ أم لا؟ وقد يستدلّ للحرمة بثلاث روايات: الرواية الثالثة.
* بقي عندنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها: التنبيه الثاني: هل يعتبر قَصْد الحكاية والتمثيل في حرمة التصوير.
* بقي عندنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها: التنبيه الثالث: في أنَّ المحرَّم هو الصُّورة التَّامَّة للحيوان.
* بقي عندنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها: التنبيه الرَّابع: في حُكْم اقتناء الصُّوَر المحرَّمة.
* أما تتمة الكلام في معتبرة السكوني، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
الرِّواية الثالثة: صحيح أبي العبَّاس المتقدِّمة.
قال السَّيِّد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله): «نعم، يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البَقْبَاق المتقدِّمة، بدعوى أنَّ الظَّاهر من قوله (عليه السلام) فيها: «واللهِ ما هي تماثيل الرِّجال والنِّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه».[1] هو المقابلة بين ذي الرُّوح وغيره من حيث جواز التصوير وعدمه، وذكر الأمور المذكورة فيها إنَّما هو من باب المثال» (انتهى كلامه). وفيه: أنَّ ذِكْر الأمور في الصَّحيح، وإن كان من باب المثال، إلَّا أنَّ المراد من ذي الرُّوح هو المعنى العرفي له، وهو منصرف قطعاً عن الملك والجنّ. وعليه: فهذا الدَّليل الثالث لم يكتب له التوفيق أيضاً.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا يحرم تصوير الملَك والجنّ، والله العالم.
التنبيه الثاني: ذَكَر جماعة من الأعلام أنَّه يعتبر قَصْد الحكاية والتمثيل في حرمة التصوير.
قال الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله): «هذا كلّه مع قصد الحكاية والتمثيل، فلو دعت الحاجة إلى عمل شيء يكون شبيهاً بشيء من خلق الله، ولو كان حيواناً من غير قصد الحكاية، فلا بأس قطعاً» (انتهى كلامه).
أقول: ولعلّ السِّر في ذلك: هو أنَّ أدلَّة التحريم لا تشمل من لم يقصد الحكاية والتمثيل، كما لو حصلت المشابهة للحيوان اتِّفاقاً، ومن دون قَصْد، فإذا احتاج الإنسان إلى عمل شيء من المكائن والآلات، ونحوها، كما في صنع الطَّائرات الشَّبيهة ببعض الحيوانات، فلا حرمة في ذلك، وإن كانت على صورة بعض الحيوانات، لأنَّه لم يقصد الحكاية من أوَّل الأمر، وإنَّما حصلت اتِّفاقاً، فأدلَّة التحريم لا تشملها. وقد يحتمل أيضاً عدم حرمتها: من باب أنَّ الصُّورة حينئذٍ مشتركة بين الحيوان وغيره، فلم تكن متمحِّضة في الحيوانيَّة، فلا حرمة حينئذٍ إلَّا مع قصد الحكاية، والله العالم.
التنبيه الثالث: يظهر من الرِّوايات الواردة في حرمة التصوير: أنَّ المحرَّم هو الصُّورة التَّامَّة للحيوان، بحيث يصدق على الصُّورة أنَّها تمثال -بالحمل الشَّايع- للحيوان. والمرجع في تحديد الصُّورة التَّامَّة إلى العرف، فلو كانت الصُّورة ناقصة بعض الأعضاء، بحيث يصدق على الباقي أنَّه تمثال للحيوان بالحمل الشَّايع -كما لو كان الناقص يداً واحدةً، أو رجلاً واحدة، ونحو ذلك، ممَّا لا يضرّ بصِدْق التمثال على الباقي- فلا إشكال في الحرمة حينئذٍ، كما أنَّه لو صوَّر بعض أجزاء الحيوان فلا إشكال فيه، لِعدم صدق التمثال عليه.
ومن هنا: لو صوَّر نصف الحيون من رأسه إلى وسطه، فإنْ قدّر الباقي موجوداً فهو حرام، كما إذا صوَّر إنساناً جالساً لا يتبين نصف بدنه، أو صوَّر إنساناً وراء جدار أو فرس أو يَسْبح في الماء ورأسه ظاهر. نعم، إن قَصَد النِّصف فقط، ولم يقدِّر الباقي موجوداً فلا يحرم، إلَّا مع صِدْق الحيوان على هذا النِّصف، كما لو صوَّر إنساناً جالِساً لا يتبيَّن نصفه الأسفل.
وممَّا ذكرنا يتضح لك بطلان: ما حُكي عن المحقِّق الايرواني (رحمه الله) في حاشيته على المكاسب، من أنَّه: «من المحتمل قريباً حرمة كلِّ جزءٍ جزءٍ، أو حرمة ما يعمّ الجُزء والكلّ، فنقش كلِّ جزء حرام مستقلّ إذا لم ينضمَّ إليه نقش بقيَّة الأجزاء، وإلَّا كان الكلّ مصداقاً واحداً للحرام» (انتهى كلامه). ووجه بطلان ما ذكره: هو ما عرفته من عدم صِدْق التِّمثال والحيوان على تصوير بعض الأجزاء، والله العالم.
التنبيه الرَّابع: في حُكْم اقتناء الصُّوَر المحرَّمة.
حُكي عن شرح الإرشاد للمحقِّق الأردبيلي (رحمه الله): عدم حرمة اقتناء الصُّوَر المحرَّمة. ولكنَّ صاحب الجواهر (رحمه الله): نسب إليه حرمة إبقاء الصُّوَر.
ومهما يكن، فقدِ اعترف المحقِّق الثاني (رحمه الله) في جامع المقاصد: بعدم الدَّليل على حرمة الإبقاء، وقد فرَّع على ذلك جواز بيع الصُّوَر المعمولة، وعدم لحوقها بآلات اللهو والقمار.
أقول: المعروف بين قدماء الأصحاب حرمة اقتناء الصُّوَر، خلافاً للمشهور بين متأخِّرِي المتأخِّرين.
وفي الجواهر: «أمَّا بيعها واقتناؤها والانتفاع بها والنَّظر إليها، ونحو ذلك، فالأصل والعمومات والإطلاقات تقتضي جوازه؛ وما تُشعِر به بعض النُّصوص من حرمة الإبقاء، كأخبار عدم نزول الملائكة ونحوها محمول على الكراهة، أو غير ذلك، خصوصاً مع أنَّا لم نجد مَنْ أفتى بذلك، عدا ما يُحْكى عن الأردبيلي (رحمه الله) من حرمة الإبقاء، ويمكن دعوى الإجماع على خلافه» (انتهى كلامه).
ثمَّ إنَّه قدِ استُدل لحرمة الاقتناء بعدَّة أدلَّة:
منها: أنَّه يظهر من تحريم عَمَلِ الشَّيء مبغوضيَّة وجود المعمول ابتداءً واستدامةً، أي هناك ملازمة بين حرمة عَمَلِ الشَّيء وبين حرمة اقتنائه، وعليه: فما دلَّ على حرمة التصوير يدلُّ على حرمة الإبقاء والاقتناء بالملازمة، بل قد يُقال: إنَّ الإيجاد عين الوجود، والتغاير بينهما اعتباري، لأنَّه إذا قِيس الصَّادر إلى الفاعل يكون إيجاداً، وإلى القابل يكون وجوداً، وعليه: فحرمة الإيجاد هي عَيْن حرمة الوجود. وفيه: أنَّ هذا الكلام إنَّما يتمُّ في الوجود الأوَّل الذي هو عَيْن الإيجاد، وأمَّا الموجود في الآن الثاني والثالث، وهكذا، المعبَّر عنه بالبقاء، فلا هو عين الإيجاد، ولا ملازم له، وعليه: فحرمة الإيجاد لا تقتضي حرمة البقاء، إلَّا إذا كانت هناك قرينة، كما في حرمة تنجيس المسجد الملازمة لوجوب إزالة النَّجاسة عنه، حيث ادُّعِي الإجماع على وجوب إزالة النَّجاسة فوراً.
ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية تُحَف العقول: «إنَّما حرَّم الله الصِّناعة التي هي حرام كلّه، التي يجيء منها الفاسد مَحْضاً، ولا يكون منه وفيه شيء مِنْ وجوه الصَّلاح ...»، وظاهره أنَّ كلَّ ما يحرم صنعته الذي يجيء منه الفساد مَحْضاً يُحْرم جميع التقلُّب، ومنه الاقتناء، وقد دلَّ عليه قوله (عليه السلام) فيه: «وجميع التقلُّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها»، وقوله (عليه السّلام) أيضاً فيه: «فكلُّ أمر يكون فيه الفساد ممَّا هو منهيّ عنه. (إلى أن قال): فهو حرام بيعه وشراؤه، وإمساكه وملكه، وهبته وعاريته، وجميع التقلُّب فيه».[2] ومن جملة الصَّنائع المحرَّمة عَمَل التصاوير الذي يجيء منه الفساد مَحْضاً. وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بالإرسال. وثانياً: أنَّ الرِّواية دالَّة على حرمة صنع التصاوير، أي فعلها بالمعنى المصدري، ولا تدلّ على حرمة بقائها، أي اقتنائها، إذ لا ملازمة بين حرمة الفعل وبين حرمة بقائه في الآن الثاني والثالث، وهكذا. وثالثاً: أنَّ المفهوم من الرِّواية بمقتضى الحصر أنَّه لا يحرم إلا ما ينحصر فائدته في الحرام، ولا يترتَّب عليه إلَّا الفساد؛ ولا دليل على أنَّ عَمَلَ التصاويرِ فائدتُه منحصرة في الحرام، ولا يجيء منه إلَّا الفساد، إذ قد يترتَّب عليه بعض المنافع المحلَّلة، كمهنة وحِرفة صنع التصاوير مطلقاً، ونحو ذلك.
ومنها: معتبرة السَّكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، فقال: لا تدعْ صورةً إلَّا محوتها، ولا قبراً إلَّا سوَّيته، ولا كَلْباً إلَّا قتلته».[3] والرِّواية معتبرة، إذ قد عرفت حال النوفلي والسَّكوني، فلا حاجة للإعادة.
أما تتمة الكلام في معتبرة السكوني، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.