الدرس 181 _ تنبيهات الإستصحاب 2
نعم يبقى إشكال في المقام: وهو أنه كيف تكون قاعدة الفراغ حاكمة على استصحاب الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله مع أنه دخل في الصلاة غافلاً عن حاله -لأن الفرض أنه تيقن بالحدث ثمّ غفل وصلّى غافلاً- ووجه الإشكال: هو أنّ قاعدة الفراغ مختصّة بصورة عدم العلم بالغفلة فكيف جرت هنا مع أنه غافل.
والخلاصة: إن اعتبرنا أنّ قاعدة الفراغ أمارة نوعية على عدم وقوع الغفلة والسهو -كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي (رحمه الله) وجماعة من الأعلام- فلا مجال للأخذ بها مع العلم بالغفلة كما هو الفروض في المقام.
وعليه: فعدم جريان الاستصحاب في حال الغفلة مسلّم لعدم الشكّ الفعلي، إلا أنه لا مانع من جريانه بعد الصلاة حتى بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها، لاختصاص قاعدة الفراغ بصورة عدم العلم بالغفلة، فلا تجري في المقام حتى تكون حاكمة على الاستصحاب أو مخصِصة له.
ولكن الإنصاف: هو ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنّ قاعدة الفراغ وكذا قاعدة التجاوز من الأصول المحرِزة كالاستصحاب، وكون القاعدتين تحكيان عن الواقع غالباً وإن كان ذلك أمراً مسلّماً كما في قوله (عليه السلام) في حسنة بكير بن أعين: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ»، إلا أنّ مجرّد ذلك لا يجعلهما من الأمارات ما لم يحرز اعتبار الشارع إياهما من جهة تتميم الكشف، واستفادة ذلك من الأخبار ممنوعة، بل المستفاد من الأخبار المأخوذ في موضوعهما الشكّ خلاف ذلك، فإن قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء»، وقوله (عليه السلام) في موثقة إسماعيل بن جابر: «كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه فليمضِ عليه»، ينادي بإلغاء جهة الكشف.
وعليه: فالقاعدتان تجريان حتى في صورة العلم بالغفلة حين العمل كما فيما نحن فيه، فتكون قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ وبعد الالتفات، أو مخصِصة له كما لعلّه الأقرب لِما عرفت أنها أصل محرِزٌ والاستصحاب كذلك، وعليه فهما متحدان رتبة، فكيف تكون القاعدة حاكمة عليه، بل هي مقدّمة على الاستصحاب ومخصِصة له من باب أنها غالباً تجري في موارد الاستصحاب، فلو أخذنا به وقدّمناه على القاعدة لبقيت بلا مورد إلا نادراً كما في صورة تعاقب الحالتين حيث لا يجري الاستصحاب إما لعدم جريانه في نفسه مع العلم الإجمالي أو من جهة سقوطه بالمعارضة. هذا كله فيما لو كان محْدثاً ثمّ غفل عن حاله وصلّى غافلاً.
وأما لو اْلتفت قبل الصلاة وشكّ ثمّ غفل وصلّى: فقد ذكرنا أن المعروف بين الأعلام هو الحكم ببطلان الصلاة لتحقق الشكّ الفعلي قبل الصلاة ولا تجري قاعدة الفراغ لاختصاصها بالشكّ الحادث بعد الفراغ ولا تشمل ما إذا حدث الشكّ قبل الصلاة.
أقول: ما ذكروه من عدم جريان قاعدة الفراغ هو في محله، إلا أنّ بطلان الصلاة ليس من جهة استصحاب الحدث قبلها، لأنّ الاستصحاب وظيفة عملية للشاكّ بما هو شاكّ فيكون متقوّماً بالشكّ حدوثاً وبقاءً، فمن حين طروّ الغفلة يرتفع الحدث الاستصحابي بارتفاع شكّه فلا استصحاب حين الشروع في الصلاة يقتضي محكومية المصلّي بالمحدثية.
وبالجملة: فإنّ استصحاب الحدث إنما يجري على فرض بقائه ملتفتاً إلى حين الشروع في الصلاة، وإلا فمع زواله بطروّ الغفلة قبل الشروع في الصلاة فلا استصحاب حينئذٍ.
وأما الوجه في بطلان الصلاة مع عدم جريان الاستصحاب قبل الصلاة ومع عدم جريان قاعدة الفراغ المقتضية للصحة -لأن موردها الشكّ بعد الفراغ، لا الشكّ قبل الصلاة كما هو المفروض- هو استصحاب الحدث بعد الفراغ من الصلاة إذ لا معارض له ولا شيء مقدّم عليه، وعلى فرض عدم جريانه فوجوب الإعادة حينئذٍ إنما هو من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، والله العالِم.
[التنبيه الثاني]
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): إنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير ثبوته، وان لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشكال، من عدم إحراز الثبوت فلا يقين، ولابدّ منه، بل ولا شك، فإنّه على تقديرٍ لم يثبت ...*
إعلم أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب محرزاً باليقين الوجداني، بل هذه الصورة هي القدر المتيقن، وأما إذا لم يكن الحكم الشرعي أو الموضوع للحكم ثابتاً بالوجدان، بل كان ثبوته بقيام الأمارة عليه، فهل يجري الاستصحاب عند الشكّ في بقائه؟
فقد يستشكل في المقام: بأنه لا يقين بالثبوت مع أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالثبوت، بل يمكن أن يقال أنّ الشكّ في البقاء أيضاً لا يتحقق في مؤديات الأمارات، لأن الشكّ في البقاء فرع العلم بالثبوت، فالشكّ في البقاء يكون تقديرياً لا فعلياً فينتفي كلّ من اليقين والشكّ المأخوذَين في موضوع الاستصحاب.
وقد أجاب صاحب الكفاية (رحمه الله) عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ أدلة الاستصحاب ليس موضوعها الشكّ في البقاء الفعلي حتى يتوقف على اليقين بالثبوت، بل البقاء التقديري أي البقاء على تقدير الثبوت فهي تجعل الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه ولو علم بعدم الثبوت، لأن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.
وبالجملة فحقيقة الاستصحاب أنما هي التعبّد بالبقاء على تقدير الثبوت أي جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه، وجعل الملازمة لا يتوقف على ثبوت المتلازمين، فإذا ثبتت الملازمة المذكورة بالاستصحاب، وقامت الأمارة على الثبوت، كانت حجة عليه وعلى البقاء، لأن الدليل على أحد المتلازمين دليل على الملازم الآخر. هذا حاصل ما أجاب به صاحب الكفاية (رحمه الله) مع توضيح منّا.
أما الإنصاف في المسألة فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.