الدرس 42 _ تنبيهات البراءة 9
[تنبيهات البراءة]
[التنبيه الثالث: مفاد أخبار من بلغ. تفريعات: الفرع الثاني، الفرع الثالث/ التنبيه الرابع: أنحاء تعلّق النهي بالطبيعة]
الفرع الثاني: بناءً على الوجه الأوّل من كون مفاد تلك الأخبار إثبات الاستحباب النفسي لما بلغ عليه الثواب، فإذا قام خبر ضعيف على وجوب غسل مسترسل اللحية أو استحبابه فلا يجوز المسح حينئذٍ ببلّته كبلّة بقية الأجزاء، لأنّ المقدار الثابت من المسح بالبلّة إنّما هو المسح ببلّة الوضوء لا مطلقاً. والفرض أنّ هذه البلّة ليست بلّة الوضوء، لما عرفت أنّ مفاد تلك الأخبار هو الاستحباب النفسي من دون أن يقتضي جزئيته للوضوء.
وأمّا على الوجه الثاني من كون مفادها الاستحباب الطريقي، أي اسقاط شرائط حجّية الخبر في المستحبات، وأنّه لا يعتبر فيها ما يعتبر في الخبر القائم على الوجوب أو الحرمة، ففي هذه الحالة لا بدّ من ملاحظة الخبر القائم على الاستحباب، فإذا كان مفاده جزئية الأمر الكذائي استحباباً لأمر واجب أو مستحب، فيحكم باستحبابه وصيرورته من الأجزاء المستحبّة للمركّب، ولازمه جواز ترتيب ما لذلك المركّب عليه من اللوازم والآثار، كما في غسل مسترسل اللّحية في الوضوء، فإذا قام خبر ضعيف على استحباب غسله، فيحكم عليه بكونه من الأجزاء المستحبّة، فيترتّب عليه جواز المسح ببلّته كبلّة بقية الأجزاء.
وأمّا لو كان مفاد الخبر الضعيف مجرّد استحباب غسل المسترسل من اللحية نفسياً من دون أن يقتضي جزئيته، فلا يصحّ المسح حينئذٍ ببلّته.
وأمّا على الوجه الثالث من كون مفادها الارشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، كما اخترناه، فلا إشكال في عدم جواز المسح ببلّته، لما عرفت من لزوم كون المسح ببلّة الوضوء، ولم يثبت كونها ببلّته. والله العالم.
الفرع الثالث: هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه بالوجوب والاستحباب فتشمله الأخبار؟
أقول: أمّا على الوجه الأوّل من الاستحباب النفسي المولوي، وكذا الوجه الثاني أي الاستحباب الطريقي، ففي التعدّي إلى فتوى الفقيه إشكال باعتبار أنّ الاستحباب خلاف الأصل، والقدر المتيقّن من تلك الأخبار صورة قيام الخبر على الاستحباب، مضافاً إلى دعوى انصراف أخبار بلوغ الثواب إلى الثواب البالغ من غير جهة الحدس، فلا تشمل حينئذٍ لمثل فتوى الفقيه المستندة إلى حدسه بإعمال اجتهاداته الظنيّة.
وأمّا بناءً على الوجه الثالث وهو الانقياد، فلا إشكال حينئذٍ، لما عرفت من أنّه يكتفى في جريانه بمجرّد احتمال الثواب ورجاء المطلوبية الواقعية وإن لم يكن هناك خبر أصلاً.
بقي الكلام فيما لو قام خبر ضعيف على استحباب شيء مع قيام الشهرة الفتوائية أيضاً للمتقدّمين على طبقه:
فإنّه بناءً على الوجه الأوّل والوجه الثاني، أي الاستحباب النفسي والطريقي، لا إشكال في جواز الإفتاء باستحبابه.
وأمّا بناءً على الوجه الثالث، أي كون مفاد تلك الأخبار الارشاد إلى حسن الانقياد، فلا إشكال أيضاً فيما لو علم استناد فتواهم بالاستحباب إلى ذلك الخبر، حيث يجوز الإفتاء بمضمونه بالاستحباب الواقعي بناءً على انجبار ضعفه بعمل المشهور. وأمّا إذا لم نقل بالانجبار -كما هو مبنانا في المسألة- أو لم يعلم استنادهم إليه، بأن يحتمل استنادهم في ذلك إلى أدلّة التسامح، فلا يجوز حينئذٍ، نظراً إلى بقاء الخبر على ضعفه، فلا بدّ حينئذٍ من نفي البأس عن العمل به من باب رجاء إدراك الواقع. والله العالم.
[التنبيه الرابع: أنحاء تعلّق النهي بالطبيعة]
*قال صاحب الكفاية: الثالث: أنّه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلاً كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرّة ولو بالأصل، فلا يجوز الاتيان بشيء شك معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الاتيان به. نعم، لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلّق النهي إلا بما علم أنه مصداقه فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة ...*
هذا هو التنبيه الرابع على حسب ترتيبنا، وحاصله: إنّه قد يتوهّم أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان وكذا البراءة الشرعية (رفع ما لا يعلمون) لا تجري في الشبهة التحريمية الموضوعية، وإنّما موردها الشبهة الحكمية.
وحاصل التوهّم: هو أنّ مورد قاعدة العقاب بلا بيان هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع أصلاً، أو ورد ولكن لم يصل إلى المكلّف، وفي الشبهات الموضوعية قد وصل البيان من الشارع إلى المكلّف، لأنّ وظيفة الشارع إنّما هي بيان الكبريات كقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾.
وأمّا بيان الصغريات من كون هذا الشيء من أفراد لحم الخنزير أو لحم الغنم فليس هو من وظيفة الشارع، وفي الشبهات الموضوعية قد وصلت كبراها إلى المكلّف وعلم بها، وإنّما كانت الشبهة في الصغرى. وعليه، فلا مجال للتمسّك بالبراءة العقلية ولا البراءة الشرعية، لحصول العلم، بل ينبغي التمسّك بقاعدة الاشتغال، لأنّ العلم باشتغال الذمّة بالكبرى المعلومة والواصلة يقتضي العلم بالفراغ عقلاً، وذلك لا يحصل إلاّ بالاجتناب عن مورد الشبهة.
وبعبارة أخرى: وظيفة الشارع المقدّس بيان الأحكام الكلّية، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف. وأمّا الأحكام الجزئية فضلاً عن الموضوعات الخارجية فليس من وظيفة الشارع بيانها، بل الأحكام الجزئية تدور مدار تحقّق موضوعاتها الخارجية.
ولا يخفى، أنّ المشكوك أوّلاً في الشبهات الموضوعية إنّما هو وجود الموضوع في الخارج، ويستتبعه الشكّ في الحكم الجزئي.