الدرس 92 _زكاة مال التجارة 5
قال في الجواهر: «هذا كلُّه مماشاة للأصحاب، وإلاَّ فقد يتوقَّف في أصل الحكم باعتبار ظهور النُّصوص في زكاة المال المطلوب برأس المال، أو بالرِّبح الشَّامل للزِّيادة، فلا تحتاج هي إلى حول مستقلّ، خصوصاً خبر شعيب منها عن الصَّادق (عليه السلام): «كلُّ شيءٍ جرّ عليك المال فزكِّه، وما ورثته واتهبته فاستقبل به»، بل، روى عبد الحميد عنه (عليه السلام) أيضاً: «إذا ملك مالاً آخر في أثناء الحَوْل الأوَّل زكاهما عند الحَوْل الأوَّل»، وقدِ اعترف في الدُّروس بدلالتهما على ذلك، فقال: فيهما دلالة على أنَّ حول الأصل يستتبع الزَّائد في التِّجارة وغيرها، إلاَّ السِّخال، ففي رواية زرارة عنه (عليه السلام): «حتى يحول الحَوْل من يوم تنتج»، فتأمَّل جيِّداً...»، وهو جيد، إلا أنَّ رواية شُعيب ضعيفة كما تقدم باشتراك شُعيب.
وأمَّا رواية عبد الحميد بن عواض، التي نقلها صاحب الجواهر بالمضمون، فهذا نصها: «عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: في الرَّجل يكون عنده المال، فيحول عليه الحَوْل، ثمَّ يصيب مالاً آخر قبل أن يحول على المال الأوّل الحَوْل، قال: إذا حال على المال الأوَّل الحَوْل زكَّاهما جميعاً»([1]).
فهي أوَّلاً: ضعيفة بابن جمهور، وهو محمَّد بن جمهور أبو عبد الله العمّيّ البصريّ وجهالة أبيه.
وثانياً: أنها أجنبيَّة عمَّا نحن فيه ، فإنَّ ظاهرها إرادة مال آخر أجنبيّ عن المال الأوَّل.
وعليه، فحتى لو قلنا: باعتبارها سنداً، فإنَّ الأَولى ردُّ علمها إلى أهلها (عليهم السلام).
وأمَّا رواية زرارة التي أشار إليه المصنِّف (رحمه الله) فهي حسنة زرارة، وقد تقدَّمت سابقاً([2]).
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا يُشترط بقاء العين في الأصحّ، فلو تبدَّلت زُكِّيت(1)
(1) قال في المدارك: «وهل يُشترط في زكاة التِّجارة بقاء عين السِّلعة طول الحَوْل كما في الماليَّة، أم لا يُشترط ذلك فتثبت الزَّكاة وإن تبدَّلت الأعيان مع بلوغ القيمة النِّصاب؟ الظَّاهر من كلام المفيد (رحمه الله) في المقنعة الأوَّل، فإنَّه قال: «وكلُّ متاعٍ طلب من مالكه بربح أو برأس ماله، فلم يبعه طلباً للفضل فيه، فحال عليه الحَوْل، ففيه الزَّكاة بحساب قيمته سنَّةً مؤكَّدةً»، ونحوه قال ابن بابويه في (مَنْ لا يحضره الفقيه)، وهو ظاهر اختيار المصنِّف في هذا الكتاب، وبه قطع في المعتبر إلى أن قال: وجزم العلاَّمة ومَنْ تأخَّر عنه بالثَّاني، وادَّعى عليه في التَّذكرة وولده في الشَّرح الإجماع، وهو ضعيف».
أقول: سواء صحَّت النِّسبة إلى الشَّيخ المفيد (رحمه الله) وكذا غيره أم لم تصحّ، فإنَّه قدِ استُدلّ لهذا القول ببعض الأدلَّة:
منها: الرِّوايات الدَّالّة على اعتبار حولان الحَوْل، فإنَّه مع تبدُّل العين التِّجاريَّة بعين أخرى لا يصدق حولان الحَوْل على كلٍّ منهما.
وفيه: أنَّ الرِّوايات الدَّالّة على اعتبار الحَوْل قد دلَّت على اعتباره في المال الذي يُعمل به للتِّجارة لا في خصوص ما يُشترى به، ومن المعلوم أنَّ ما يُعمَل به لا يراد منه شخصه.
وبعبارة أخرى: أنَّ المدار على المال الذي يُـــتَّجر به باعتبار ماليَّته، وإن تبدَّلت أشخاصه.
والمراد من بقاء المال حولاً هو ملاحظته مجرَّداً عن الخصوصيَّات المميّزة له عن بدله وعوضه، فلا فرق حينئذٍ بين بقاء نفس العين الأُولى وبين تبديلها بعين أخرى مرَّةً أو مرّات، حتى يمضي الحَوْل من حين التَّكسُّب، فالزَّكاة في الحقيقة تتعلَّق بالمال المتقلِّب في التِّجارة لا بشخص ما اشتراه للتِّجارة.
ومنها: ما ذكره صاحب المدارك (رحمه الله)، حيث قال: «ويدلُّ عليه أيضاً أنَّ مورد النُّصوص المتضمِّنة لثبوت هذه الزَّكاة السِّلعة الباقية طول الحَوْل، كما يدلُّ عليه قوله (عليه السلام) في حسنة ابن مسلم المتقدِّمة: «وإن كان حبسه بعد ما يجد رأس ماله فعليه الزَّكاة»، وفي رواية أبي الربيع: «إن كان أمسكه يلتمس الفضل على رأس المال فعليه الزَّكاة»، وقريب منهما صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق «قال: سأله سعيد الأعرج وأنا أسمع فقال: إنَّا نكبس الزَّيت والسَّمن نطلب به التِّجارة، فربَّما مكث عندنا السَّنة والسَّنتَيْن، هل عليه زكاة؟ فقال: إن كنت تربح فيه شيئاً أو تجد رأس مالك فعليك زكاته، وإن كنت إنَّما تربَّص به لأنَّك لا تجد إلاَّ وضيعة فليس عليك زكاته» انتهى كلام صاحب المدارك (رحمه الله).
وفيه: أنَّه ليس في هذه النُّصوص التي ذكرها صاحب المدارك (رحمه الله) مع قطع النَّظر عن ضعف رواية أبي الرَّبيع كما تقدَّم ظهور في اشتراط المكث سنةً، بل أقصاها ثبوت الزَّكاة فيه، فلا منافاة بينها وبين الرِّوايات الدَّالّة على الإطلاق.
وبعبارة أخرى: إنَّ حَمْل المطلق على المقيَّد إنَّما يتمُّ إن كان هناك منافاة بينهما، كما إذا كان أحدهما منفيّاً والآخر مُثبتاً، كما في قولك: أكرم العالم، ولا تكرم العالم الفاسق، وأمَّا إن كان كلٌّ منهما مثبتاً فلا موجب لحمل المطلق على المقيد، كما في قولك: أكرم العالم، وأكرم العالم العادل.
ثمَّ إنَّه يحتمل أن يكون السُّؤال في النُّصوص عن المال الماكث، لتخيُّل سقوط الزَّكاة عنه بالمكث؛ باعتبار بناء مال التِّجارة على التقلُّب والتغيُّر.
ومهما يكن، فالإنصاف: هو ما اختاره العلاَّمة (رحمه الله) ومَنْ تأخَّر عنه من عدم اعتبار الحَوْل في نفس السِّلعة، بل في المال الذي يتَّجر به؛ باعتبار ماليَّته، وإن تبدَّلت أشخاصه؛ وذلك لا للإجماع المحكي في التَّذكرة لعدم حُجِّيّته بل لما أشرنا إليه من الرِّوايات المطلقة التي لا تنافيها النُّصوص التي ذكرها صاحب المدارك (رحمه الله).
والمراد من الرِّوايات المطلقة هي الرِّوايات الدَّالّة على ثبوت الزَّكاة في المال الذي يتّجر به ويعمل به، ومن المعلوم أنَّ ما يعمل به لا يراد منه شخصه بل الأعمّ منه ومن بدله، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 16 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح2.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الأنعام ح1.