الدرس 175 _ المقصد الأول في الاوامر 107
هذا حاصل إشكال الميرزا، وقد ردّ السيد الخوئي R بأنّ دعواه مبنيّة على القول بالواجب المعلق؛ لأنّه بناءً على إمكان تعلق الوجوب بأمر متأخّر على نحو الواجب المعلق، لا مانع حينئذٍ من تعلق الأمر بالعبادة الموسعة في حال مزاحمتها بالواجب المضيق على نحو يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً؛ لاستحالة تعلق الأمر بها على نحو يكون الواجب أيضاً حالياً؛ لأنّها في تلك الحال غير مقدورة للمكلف بجميع أفرادها؛ لأنّ الأمر وإن تعلق بالجامع لا بالفرد المزاحم، إلا أنّ الجامع أيضاً غير مقدور في ذلك الزمان؛ لأنّ أفراده الطولية الاستقبالية؛ أي الأفراد غير المزاحمة غير مقدورة عقلاً فعلاً، وفرده المزاحم غير مقدور شرعاً، فيلزم التفكيك بين زمان فعلية الوجوب وزمان القدرة على متعلقه، وهو ممكن على القول بالواجب المعلق.
وأمّا بناءً على وجهة نظره ومن وافقه على هذا المبنى من استحالة الواجب المعلّق وعدم إمكان تعلق الطلب بأمر استقبالي مقدور في ظرفه، فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم مطلقاً حتى على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو الحكم العقلي؛ وذلك لعدم إمكان طلب صرف وجود الطبيعة المأمور بها المزاحمة بالواجب المضيَّق حينئذٍ، ليكون انطباقه على ما أتى به المكلف في الخارج قهرياً والإجزاء عقلياً.
الجواب: ذكرنا سابقاً أنّ إنكارنا للواجب المعلق راجع إلى إنكار الشرط المتأخر؛ فوجوب تكبيرة الإحرام مشروط بالقدرة على التسليم مع أنّ القدرة عليه متأخرة زماناً على التكبيرة، وقد أجبنا هناك بأنّ شرط القدرة على التسليم ليس متأخراً، وإنّما هو مقارن؛ لأنّه على نحو التعقب؛ أي وجوب التكبيرة مشروط بالتعقب بالقدرة على التسليم، والتعقب صفة مقارنة للمشروط.
وكذلك فيما نحن فيه، فإنّ وجوب الصلاة فعلي ومشروط بالتعقب بالقدرة على الفرد الثاني والثالث وما يليهما من الأفراد غير المزاحمة للإزالة، وهذا الشرط مقارن وحاصل بالفعل، فلا إشكال حينئذٍ.
ثمّ إنّه يُشكل على الشيخ النائيني أيضاً، بناءً على ما ذهب إليه من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت تقابل الملكة وعدمها، فإنّ استحالة تقييد الصلاة بهذا الفرد المزاحم للإزالة باعتبار أنّه ممنوع منه شرعاً فهو كالممتنع عقلاً يقتضي استحالة إطلاقها أيضاً، ومع استحالة الإطلاق لا يمكن الإتيان بهذا الفرد للصلاة المزاحم للإزالة بقصد امتثال الأمر بالطبيعة مطلقاً. وعليه، فلا تصح الصلاة حتى في صورة أخذ القدرة عقلاً.
وفيه: أنّ هذا الإشكال وإن كان وارداً على الميرزا، إلا أنّه غير وارد علينا؛ لبنائنا على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت تقابل الضدين، وبالتالي إن استحال تقييد الصلاة بهذا الفرد المزاحم للإزالة، تعيَّن الإطلاق، فتكون الصلاة المأمور بها هي طبيعي الصلاة مطلقاً، فيكفي في امتثالها حينئذٍ إتيان فرد واحد منها حتى الفرد المزاحم؛ لاشتماله على الملاك كبقية الأفراد؛ فإنّ جميعها متساوية الأقدام من حيث الوفاء بغرض التكليف، كلّ ما في الأمر أنّه يلزم من اختيار هذا الفرد المزاحم أن يكون المكلف عاصياً بترك الأمر بالإزالة، فيمكن الامتثال بإتيان الفرد المزاحم للإزالة بقصد الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة.
ولا يخفى عليك أنّ هذا الكلام كله بناءً على اشتراط قصد الأمر في صحة العبادة، وأمّا بناءً على كفاية قصد الملاك، فسيأتي الكلام عنه قريباً.
ثمّ إنّ السيد الخوئي R أشكل على أستاذه النائيني R في دلالة التكليف على القدرة.
وحاصله: إنّ اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلّقه مبني على ما هو المشهور من أنّ المنشأ بصيغة الأمر إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الإرادي، والطلب والبعث التشريعيّان عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته. وعليه، فالتكليف يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه، ولكن التحقيق أنّ حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما؛ من صيغة الأمر أو ما شاكلها، ولا نتصوّر للتكليف معنى غير ذلك.
وبناءً على ذلك، لا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصّة المقدورة؛ فإنّ اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف وذمته لا يقتضي ذلك بوجه؛ ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور على عهدته أصلاً وإبراز المولى ذلك الأمر الاعتباري النفساني بمبرزٍ في الخارج أيضاً لا يقتضي ذلك؛ بداهة أنّه ليس إلا مجرّد إبراز وإظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف، وهو أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
وفيه: أنّ المسألة ليست في تصوير الإنشاء حتى يشكل عليه بذلك، بل لأنّ روح التكليف وواقعه يقتضي البعث وتحريك العضلات نحو الفعل، ولا بدّ من الجواب على طبق هذا الواقع.
ومن هنا نقول في الجواب عن ذلك: إنّ التكليف وإن اقتضى تحريك العضلات وجعل الداعي نحو الفعل، إلا أنّ المطلوب هو الطبيعة على نحو صرف الوجود، وهذه الطبيعة وإن كان بعض أفرادها ممكناً والبعض الآخر ممتنعاً، إلا أنّه لا مانع من جعل الداعي نحو الجامع بين الممكن والممتنع؛ لتمكنه من الامتثال حينئذٍ بالقدرة على فرد منها فيحصل المطلوب حينئذٍ.
نعم، الذي لا يمكن هو جعل الداعي نحو الممتنع فقط، ولكنك قد عرفت أنّ الطلب لم يتعلق بالفرد، وإنّما تعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود، ولا يضرّ حينئذٍ كون بعض الأفراد غير مقدورة طالما يمكنه الإتيان ببعض الأفراد المقدورة.
وعليه، فلا فرق بين القدرة المأخوذة عقلاً أو من نفس الخطاب؛ حيث يمكن الإتيان بهذا الفرد المزاحم بقصد امتثال الأمر بالطبيعة.
هذا كله أيضاً بناءً على اعتبار قصد الأمر في صحة العبادة، وأمّا بناءً على كفاية قصد الملاك، فلا إشكال حينئذٍ في صحة الفرد المزاحم للإزالة، وإن لم يكن هناك أمر بالصلاة؛ لأنّ الفرد المزاحم للإزالة مشتمل على الملاك، فيكفي قصده في صحة العبادة، بل ذهب الشيخ النائيني إلى صحة العبادة حتى مع القول باقتضاء الأمر بالإزالة النهي عن الصلاة؛ ذلك أنّ النهي عنها نهي غيري، فلا مفسدة في نفس متعلقها، بل المصلحة باقية فيها، وإنّما ورد النهي لأجل الإزالة، ومع بقاء ملاك المصلحة والمحبوبية تكون الصلاة المأتي بها صحيحة.
وبعبارة أخرى: إنّه ليس النهي في المقام عن ملاك يقتضيه، كما في باب النهي عن العبادة، وباب اجتماع الأمر والنهي بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي؛ فإنّ النهي في البابين يكون استقلالياً عن ملاك يقتضيه، ولم يبقَ معه الملاك المصحِّح للعبادة؛ لأنّه لا يتعلق النهي الاستقلالي بالعبادة إلا لمكان أقوائية ملاك النهي والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها، ومعه لا يكون في العبادة ملاك تامّ يقتضي صحة العبادة، وهذا بخلاف النهي الغيري المتعلق بالعبادة؛ فإنّه لمّا لم يكن عن مفسدة تقتضيه، بل كان لمجرد المزاحمة لواجب آخر أهمّ، كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التام المقتضي لصحتها.