الدرس361 _القيام في الصلاة 2
والإنصاف: أنَّ الرُّكن عند أكثر الأعلام هو القيام حال تكبيرة الإحرام، والقيام المتّصل بالرّكوع.
وأمَّا القيام في غير هاتين الصورتين فليس بركن، لأنَّ عمدة ما ذكروه دليلاً للركنيَّة هي ظهور الأدلَّة في اعتبار وجوب القيام مطلقاً، أي الشَّامل لحال السَّهو.
وفيه: أنَّ قوله N في صحيحة زرارة «لا تعاد الصَّلاة إلاَّ من خمسة...»[i]f604 حاكم على مثل هذه المطلقات، حيث يدلّ على صحّة الصّلاة مع الإخلال بكلّ جزء أو شرط غير هذه الخمسة المستثناة.
وعليه، فهذه الصّحيحة تقيِّد تلك المطلقات بصورة العمد.
وأمَّا القيام حال تكبيرة الإحرام فقد عرفت أنّ تركه عمداً أو سهواً يوجب بطلان الصَّلاة، وهذا من خصائص الركنيَّة.
أما أنَّ تركه عمداً يوجب البطلان فواضح.
وأمَّا أنَّ تركه سهواً يوجب البطلان، فلما تقدم من موثّقة عمّار، حيث ورد في ذيلها: «وكذلك إن وجبت عليه الصّلاة من قيام فنسيَ حتَّى افتتح الصَّلاة وهو قاعد، فعليه أن يقطع صلاته، ويقوم فيفتتح الصَّلاة وهو قائم، ولا يقتدي (ولا يعتدّ) بافتتاحه وهو قاعد»[ii]f605.
وأمَّا الكلام عن أنَّ القيام ركن مستقلّ فيكون في عرض تكبيرة الإحرام، أو أنَّه شرط فيها ومقوم لركنيّتها فلا ينبغي الخوض فيه لعدم الفائدة العمليّة.
بقي الكلام في القيام المتّصل بالرّكوع أي القيام الذي يركع عنه فقدِ استُدل لركنيّته بدليلين:
الأوَّل: الإجماع المدَّعى في كلام جماعة من الأعلام.
وفيه: أنَّه ليس إجماعاً تعبديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم N، إذ من المحتمل أن يكون مستند المجمعين هو الدليل الثاني الذي سنذكره، فيكون إجماعا مدركيّاً أو محتمل المدركيَّة.
أضف إلى ذلك: أننا قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ أدلّة حجيّة خبر الواحد لا تشمل الإجماع المحكي بخبر الواحد.
الدليل الثاني: ما ذكره جماعة من الأعلام منهم النّراقي R، من أنّ القيام المتّصل داخل في مفهوم الرّكوع، لأنّه الانحناء عن قيام، وإلاَّ فمجرّد الانحناء غير المسبوق بالقيام، كما لو نهض متقوّساً إلى هيئة الرّكوع القيامي فلا يطلق عليه الركوع.
وفيه: أنَّ الرّكوع من الجالس ركوع عند العرف بلا إشكال.
وبالجملة، فلا يعتبر القيام في الركوع، فلو نهض متقوِّساً حتَّى وصل إلى هيئة الرّكوع القيامي فيسمَّى حينئذٍ ركوعاً حقيقةً؛ ويظهر ذلك أيضاً من بعض اللغويين كصاحب القاموس.
والخلاصة: أنَّه لم تثبت ركنيّة القِيام المتّصل بالركوع بدليل معتبر.
وعليه، فبطلان الصّلاة بتركه سهواً مبنيّ على الاحتياط اللزومي، والله العالم.
(1) المراد بالإقلال أي الاستقلال، بمعنى أن يكون غير مستند إلى شيء، بحيث لو رفع السّناد سقط.
ثمَّ اعلم أنَّه يعتبر في القيام عدّة أمور:
منها: الانتصاب.
ويدلّ عليه صحيحتان:
الأُولى: صحيحة زرارة «قال: قال أبو جعفر N في حديث : وقم منتصباً فإن رسول الله C قال: مَنْ لم يقم صلبه فلا صلاة له»[iii]f606.
الثانية: صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله N «قال: قال أمير المؤمنين N: مَنْ لم يقم صلبه في الصَّلاة فلا صلاة له»[iv]f607، والصّلب كما في المجمل ومختصر النهاية هو الظهر، وفي الحدائق: «هو عظم من الكاهل إلى العجب، وهو أي (العجب) أصل الذنب...».
ولا يخفى أنَّ إقامته تستلزم الانتصاب، وقد حدّه جماعة من الأعلام بأنّه نصب فَقار الظّهر بفتح الفاء، أي خرزه.
والإنصاف: أنَّ هذه التعاريف لا تخلو من مسامحة، إذ ليس نصب فَقار الظُّهر هو تمام معنى القيام، وإلاَّ لأشكل عليهم بالجالس فإنّ فقرات ظهره منصوبة.
ومن هنا قيل: إنَّ المرجع في القيام إلى العرف، كما في سائر الألفاظ التي لم يعلم فيها للشّرع إرادة خاصّة.
وعليه، فقد يقال: إنّ الانتصاب الذي يراد به نصب فَقار الظَّهر مأخوذ في مفهوم القيام عرفاً، إذ ليس القيام عرفاً ولغةً إلاّ الاعتدال المقابل للانحناء.
ولكن الإنصاف: أنّه ليس مأخوذاً في مفهوم القيام، إذ هو كالقعود والجلوس والاضطجاع من المفاهيم الواضحة عند العرف، وصدق القيام على بعض المصاديق غير البالغة حدّ الانتصاب غير قابل للتشكيك أصلاً.
ثمَّ إنَّه لو قلنا: بكونه مأخوذاً في مفهومه، إلاَّ أنّ ذلك في حقّ القادر فقط، فاعتدال العاجز المنحني بالذات إنَّما هو بحسب حاله من الإتيان بما يمكنه من القيام، فهو بالنسبة إليه مصداق حقيقي للقيام، وإن لم يكن كذلك بالنسبة للقادر.
ثمَّ إنَّ المعروف بين الأعلام أنَّ إطراق الرأس لا ينافي الانتصاب، وفي الجواهر: «وأما إطراق الرأس وانحراف العنق يميناً أو شمالاً كما يفعله بعض الأتقياء فلا أرى فيه إبطالاً للصَّلاة لِصدق القيام...».
ونقل عن أبي الصلاح R استحباب إرسال الذقن إلى الصّدر، وذهب الشَّيخ الصَّدوق R إلى القول ببطلان الصَّلاة بالإطراق.
وقد يستدل له بمرسلة حريز عن رجلٍ عن أبي جعفر N «قال: قلت له: « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ ]الكوثر: 2[ قال النحر: الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه ونحره...»[v]f608، فإنّ إقامة النحر تنافي إطراق الرأس، فإن النحر، وإن فسّر في اللغة بأعلى الصّدر، ولكنَّ المراد بإقامته في المرسلة بحسب الظاهر نصب العنق المنافي لإطراق الرأس، وإلاَّ لاكتفى بذكر إقامة الصّلب التي تتحقّق معها إقامة أعلى الصدر.
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بالإرسال.
وثانياً: أنَّ تفسير الآية الشَّريفة بذلك مخالف للرِّوايات الكثيرة المتقدِّمة الواردة في تفسير الآية الشَّريفة، بأنَّ النحر هو رفع اليدين حيال الوجه أو إلى النحر، والتي منها صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله N (في قول الله عزَّ وجل: « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ قال: هو رفع يديك حذاء وجهك)[vi]f609.
والخلاصة: أنَّ هذه المرسلة لا يصحّ الاستدلال بها، لاسيّما مع إعراض المشهور عنها، فإنَّ إعراضهم، وإن لم يكن حجَّة، إلاَّ أنَّه يصلح للتأييد.