الدرس 137_التكسّب الحرام وأقسامه (132). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 137 / الأربعاء: 03-شباط-2021
المحاولة الثَّانية: هي الرِّوايات الكثيرة المتواترة الواردة في الأبواب المختلفة، الدَّالَّة على توجُّه الأمر الاستحبابي إلى جميع النَّاس في النِّيابة عنِ الميت في العبادة، وعن الحيِّ في جملة مِنَ المستحبَّات بل وفي بعض الواجبات في بعض الموارد، كما لو كان عاجزاً عنِ الحجِّ، بأنْ كان مريضاً لا يقدر على الذَّهاب إلى الحجِّ مدَّة حياته، أو كان عاجزاً عنِ الطَّواف الواجب، بل تجوز النِّيابة عنِ الحيِّ في حال الاختيار كما في مورد الزَّكاة الواجبة.
وعليه، فيقصد الإنسان الأَمْر المتوجِّه إليه بالاتيان بالعمل عنِ الغير، ولا يقصد الأمر المتوجِّه إلى المنوب عنه، بل قد لا يعقل ذلك، كما لو كانت النِّيابة عَنِ الأموات، فإنَّ الأوامر المتوجِّهة إلى الأموات في حياتهم قدِ انقطعت بالموت، فلا يوجد أَمْر حتَّى يقصده النَّائب في امتثال العمل عنِ المنوب عنه، وهذا لا ينافي اشتغال ذمَّة الميِّت بالعبادات الفائتة.
ومن جملة الرِّوايات الدَّالَّة على توجُّه الأمر الاستحبابي إلى المؤمن للنِّيابة عنِ الغير صحيحة موسى بن القاسم البجلي «قَاْل: قَلْتُ لأبي جعفر (عليه السلام): رُبَّما حَجَجْتُ عَنْ أبيك، ورُبَّمَا حَجَجْتُ عَنْ أَبِي، وَرُبَّمَا حَجَجْتُ عَنِ الرَّجُلِ مِنْ إِخْوَانِي، وَرُبَّمَا حَجَجْتُ عَنْ نَفْسِي، فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: تَمَتَّعْ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُقِيمٌ بِمَكَّةَ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ، فَقَالَ: تَمَتَّعْ»[1]f65.
ومنها: ما رواه علي بن موسى بن طاووس في كتاب غياث سلطان الورى لسكان الثَّرى عن عليِّ بن جعفر في كتاب مسائله عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) «قال: سَأَلتُ أبي جعفر بن محمَّد J عَنِ الرَّجلِ، هَلْ يَصْلحُ لَه أنْ يُصَلِّي أَوْ يَصُوْم عَنْ بعضِ مَوْتَاه؟ قال: نَعَم، فَلْيُصلِّ عَلَى مَاْ أَحَبَّ ويَجْعل تلك للميِّتِ، فهُو للميِّتِ إِذَا جَعَل ذلك لَه»[2]f66، وهي، وإن كانت ضعيفة في كتاب غياث سلطان الورى؛ لِعدم ذِكْر ابن طاووس طريقه إلى كتاب عليِّ بن جعفر، إلاَّ أنَّها صحيحة في الوسائل؛ لأنَّ الشَّيخ الحرَّ العاملي (رحمه الله) بعد ما نَقَل هذه الرِّواية عن ابن طاووس، قال: «ورواه عليُّ بن جعفر في كتابه».
ومن المعلوم أنَّ صاحب الوسائل (رحمه الله) له طريق صحيح إلى كتاب عليِّ بن جعفر.
ومنها: ما رواه ابن طاووس (رحمه الله) أيضاً في كتاب المزبور عن حمَّاد بن عثمان في كتابه «قَاْل: قَاْل أبو عبد الله (عليه السلام): مَنْ عَمِل مِنَ المؤمنين عَنْ مَيِّتٍ عملاً أَضْعَفَ الله لَهُ أَجْرَه، ويُنعَّم بِهِ الميَّتُ»[3]f67، وهي ضعيفة بالإرسال؛ لِعدم ذِكْر ابن طاووس طريقه إلى كتاب حمَّاد بن عثمان؛ وكذا غيرها مِنَ الرِّوايات المتواترة معنى.
والخلاصة: أنَّ النَّائب عنِ الغير في امتثال عباداته إنَّما يتقرَّب إلى الله تعالى بالأمر الاستحبابي المتوجِّه إليه، لا بالأمر المتوجِّه إلى المنوب عنه إن كان هناك أمر كما في الاستنابة عَنِ الأحياء وهذا الأمر الاستحبابي قد يصبح واجباً إذا تعلَّقت به الإجارة.
وبذلك تنحلُّ مشكلة النِّيابة عَنِ الغير في الواجبات والمستحبَّات، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ومِنَ الواجب الذي يحرم أَخْذ الأُجْرة عليه تعليم الواجب عيناً أو كفايةً، مِنَ القرآن العزيز، والفِقه، والإرشاد إلى المعارف الإلهيَّة بطريق التَّنبيه. ولا تحرم الأُجْرة على العلوم الأدبيَّة، والطُّبِّ، والحكمة. (انتهى كلامه)
(1) قد عرفت مما سبق أنَّه لا بأس بأخذ الأُجْرة على الواجبات، سواء أكان الواجب عَيْناً أو كفايةً، إلاَّ إذا كان العمل المُسْتأجر عليه ممَّا اعتُبِرت فيه المجانيَّة، سواء في ذلك الواجبات أمِ المستحبَّات، كما في استئجار المؤذِّنِ للأذان والإقامة، واستئجار القاضي للقضاء بين النَّاس، واستئجار الفقيهِ للإفتاء، ونحو ذلك، فإنَّ هذه الأعمال اعتُبِرت فيها المجانيَّة من قبل الشَّارع المقدَّس، فيحرم أَخْذ الأُجْرة عليها، والله العالم، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام مفصَّلاً عن أَخْذ الأُجْرة على تعليم القرآن الكريم عند قول الماتن: «ولو أَخَذ الأُجْرة على ما زاد على الواجب مِنَ الفِقه والقرآن...».
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وأمَّا القضاء وتوابعه، فمنِ الارتزاق من بيت المال. ويحرم عليه (وليحرم فيه) الأُجْرة، والجعالة من المتحاكمين، وغيرهما. وقال الباقر (عليه السلام): «الرُّشا في الحُكْم كُفْرٌ بالله وبرسوله». (انتهى كلامه)
(2) يقع الكلام في ستَّة أمور:
الأوَّل: في حرمة أخذ الأُجْرة والجُعالة على القضاء.
الثَّاني: في حكم الارتزاق من بيت المال.
الثالث: في موضوع الرِّشوة.
الرَّابع: في حكم الرِّشا في الأحكام، تكليفاً ووضعاً.
الخامس: في حكم الرِّشوة في غير الأحكام.
السَّادس: في حكم جواز أَخْذ القاضي للهديَّة.
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمشهور بين الأعلام عدم جواز أخذ الأُجْرة على القضاء، والحُكْم بين النَّاس، كما أنَّ المشهور بينهم عدم الجُعْل للقاضي، وذهب الشَّيخ (رحمه الله) في النِّهاية إلى الجواز، حيث قال: «لا بأس بأَخْذ الأُجْرة والرزق على الحكم والقضاء بين النَّاس من جهة السَّلطان العادل...»، وكذا الشَّيخ المفيد (رحمه الله)، حيث قال: «لا بأس بالأُجْرة في الحُكْم والقضاء بين النَّاس، والتَّبرُّع بذلك أفضل، وأقرب إلى الله سبحانه...».
وفصَّل العلاَّمة (رحمه الله) في المختلف، حيث قال: «الأقرب أن نقول: إنْ تعيَّن القضاءُ عليه، إمَّا بتعيين الإمام (عليه السلام)، أو بفقد غيره، أو بكونه الأفضل وكان متمكِّناً، لم يجزِ الأَجْر عليه، وإنْ لم يتعيَّن، أو كان محتاجاً، فالأقرب: الكراهة...».
وفي الجواهر: «وأمَّا القضاء بين النَّاس فقدِ اضطربت فيه كلمات الأصحاب اضطراباً شديداً، حتَّى أنَّ المصنِّف منهم، جَعَل حرمة الأُجْرة عليه على تفصيل يأتي في كتاب القضاء، والتَّحقيق عدم جواز أَخْذ العِوَض عنه مطلقاً عينيّاً كان عليه أو كفائيّاً، أو مستحبّاً، مع الحاجة وعدمها مِنَ المتحاكمَيْن أو أحدهما أو أجنبيٍّ أو أهل البلد أو بيت المال أو غير ذلك، سواء كان ذا كفاية أو لا، لأنه من مناصب السلطان الذي أمر الله تعالى بان يقول: « قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ ]الأنعام: 90[ وأوجب التَّأسِّي به...».
أقول: قدِ استُدلَّ للقَوْل بالمنع بعدَّة أدلَّة:
منها: الإجماع المحكيِّ عنِ الخلاف، كما في المبسوط، وظاهره الإجماع على تحريم الجُعْل الذي هو أعمُّ مِنَ الأُجْرة، ولا فرق بينها وبينه من هذه الجهة.
وقدِ ادَّعى الإجماع على المنع أيضاً المحقِّقُ الكركيِّ (رحمه الله) في جامع المقاصد.
وفيه: أنَّ الإجماع المحصَّل غير حاصل؛ لاحتمال استناد المجمعِين إلى الوجوه الأخرى، فلا يكون إجماعاً تعبُّديّاً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام).
وأمَّا الإجماع المنقول بخبر الواحد فهو غير حجَّة، كما عرفت.